language: English / Arabic / Kurdish

كتاباته



أمكنة وأصداء

كامل شياع
1. المكان الأول العراقُ الذي ما زلتَ تخشى، بعد كل أعوام الغربة، حتى من هاجس إبدال الإنتماءِ إليه، ينبسط أمامك مراياً فاضحة: عُنْفٌ وتَخريب، تُجارٌ ومُهرّبون، أحزابٌ وصحفٌ، دعاةٌ دينيّون وشيوخُ عشائر، لصوصٌ وعاطلون عن العمل، بؤسٌ وإحتجاجٌ، جماعاتٌ مدنية أو أهلية وجيوشُ خلاص، وطنيون وسماسرةُ سياسة، باحثونَ عن الحقيقة ومهرجون.
وطنُك اليوم مرايا فوضى ونورٍ، إنمساخٍ وأفق.
مرايا تكثّف أمامك أزماناً غابرة وأخرى آتية، مرايا لما كان منتظراً وما لم يكنْ.
بانوراما من شظايا الهاوية أو من أطياف التألق في العدم.
العراقُ اليوم ما عاد واحداً، إنه بابلَ الأسطورية مجسدةً. سفينة تسبح في سديم العناصر الأولى.
العراقُ اليوم طليقٌ ومأسورٌ. يلفظُ الشيء ونقيضَه: المباحُ والمقموعُ، الجنونُ والحكمةُ، الوضاعةُ والسمو، الوعيُ واللاوعي.
عراقك المضطرب، المنشقّ على نفسه، إسماً وصفةً، أفلت من مملكة الخيال هائماً في زمن التيه، شاهراً عريَه في عصر الصّورة الجليل الخاوي !
أين سيؤول هذا السيلان المنفلت؟ في أي شِعبٍ سيستريح؟ متى أيها الزمن الشحيح؟
الخرافة مستفزَّة، والدرب عصي.
أفيض إنبعاث هذا، أم دورة حِداد؟
الأعراس زائلة والبشائر خرساء والحياة مطحنة عمياء.
كم أنت رفيقة أيتها المخيلة، كم أنت إنتقائية؟

2. المكان الثاني كانت شمس الربيع الباذخة تستبق فصل صيف جنوبي، وتعدني بمسرات خيالية. تركت الرمل الساخن صوب البحر المعتم البارد. نداء مجهول يدعوني للتوغّل... وتحت خطواتي تتكسّر الأصداف الهشّة وتنبعج سجادة داكنة رطبة.
لا لون في الإنغلاق اللامحدود للبحر، لا علامة في الإنفتاح اللانهائي للنظر.
ورائي لمحت صديقي الذي أنهكته سنوات التشرّد وقد أعطى ظهره للشمس متلهفاً للتحديق في بحر ما عاد يراه، في أفق غاب عن بصره تماماً. بدا لي أنه تلاشى بين هيكل الكرسي الخشبي وخطوط قماشته الخضراء والبيضاء. صديقي ذاب في النور الإلهي الباذخ.... إبتلعه الرمل الشفيف الملتمع. هل أعود لتدارك وجوده....أو أكتفي بالاستمتاع بجمال غيابه المؤسي؟ أمضي نحو بحر الشمال. دروب أعرفها تلوح أمامي خلف ستارة من الرمادي الغامر... دروب ضيقة، ظليلة رطبة تتشعب وتتلوى قبل أن تقطعها شوارع عريضة ضاجة. أتراني بلغت بغداد أخيراً؟ أهذا طيفها يبزغ من جديد ويراودني؟ ما أقصى بغداد عن البحر... ما أغرب هذا الإقتران؟ أنا ما رأيت البحر حتى ودّعت واجهاتها المتآكلة، المحفورة على الطابوق الأصفر، النائمة في ظلال شمسها البيضاء وغبار عصورها المديدة. لماذا يحيلني البحر على بغداد القديمة المحتجبة؟ لماذا لا يشفّ عن دروب خارج نفسي؟ لماذا ينبعث الأصفر من بين الرمادي ليتألق ويحرقني؟

********
في لحظة ما سبقت إجتياز الحدود وإبدال العنوان وأوراق الهوية، في لحظة معلّقة في مدار مجهول، حان منفاي. ما كنت أعلم أن دروبه ستفضي إلى مقام بين مقامين، وأن مغزاه الدفين مبثوث في أسماء تتوالد، وعلامات تراوغ، وخرائط تهدي أو تضلّل.
********

المنفى تجربة في إفتراق المسارات. إنه محيطٌ يعوّمه المنفي ويعوم فيه، لوحةٌ بيضاء يُسقط عليها بريق المكان الأول وظلاله القاتمة، بهجته وكوابيسه، هامشٌ تُسطّر فيه دراما الوطن المحتدمة كما تشاء الحقيقة أو الحلم، درب لإقتفاء سراب ما مضى أو ما لم يحن أوانه بعد.
الوطن والمنفى زمنان مختلفان، واحد يربطنا بحبل سرّي إليه، والآخر نحمله في دواخلنا مونولوغاً نجتره أو نكتمه، أو نعيد به الإكتشاف.

********
مع تعاقب السنوات، يكون على المنفي أن يشهد للرحلة ذاتها. حينذاك تتكشف الفواصل القاسية بينه وبين جذوره الأولى، ينجلي التباعد الحاصل في المصائر، وتختلّ مواقع الكائنات والأشياء. حينذاك يكفّ الوطن عن أن يكون مادة تعلّق نرجسي، رجعاً أليفاً لنداء الوحشة.. ليتوارى خلف فصول غربة باهتة. مَن لم يواتيه هذا الإستدراك يكون كالتائه في المسافة بين حدين، لا يبصر الداخل ولا الخارج.
********

إنْ نشأت مثلي دون إكتراث للأصل والفصل، سوف لا يراودك شعور بأنك مبتلى بالمنفى. ففي البدء كانت كلمته التي إلتبس عليك معناها في سنواتك الأولى، وبطل سحرها مع الأيام.
وها أنت الآن تسبح في فلكها، وتصغي لبيانها عن حياتك العاثرة الآسرة.
ها أنت تُقبل على صنيعة الأمس: كلمة تتوارى خلف الأسماء والمسميات.
********

في الجزائر التي مكثت فيها عامين، كنتَ مغتبطاً بالمنفى. تطلّ من شرفته العالية على أهل البلد الآمنين. مكتفياً بالهامش، بـ " إمتياز" الغريب في قرية بجبال الأوراس، كنتَ ُكالشبح لا تقيم في نفسك ولا مع الساعين في قاع الحياة. فاتك أن تدرك حينها أن أولئك الآخرين الأحرار المعتدّين بثورتهم، المنافحين عن هويتهم، هم أشباح من زمن آخر.
********
للمنفى سحر العوارض، سحر حجر ملكي باخس. أنت لا تتذكر فيه تفاصيل ما قد مضى، بل تعيش أثر الفقدان. في المنفى تتجمع غيوم الذاكرة سوداء مرّة: من يقتسم مع المنفي ذاكرته الحاضرة كلّ مساء؟ .... ذاكرته الغاربة كلّ مساء ؟ أين الأسماء الأليفة؟
********

يسألني إبني الصغير: متى ستعود إلى بلدك؟
وكنا نخوض بين التخوم، ونراقب السرطانات البحرية تحفر مخادعها في الرمل النضوح.
أية موجة رمتها نحو الساحل؟ أية موجة ستنتشلها للأعماق؟

3. خارج المكان
في التاسع من نيسان من عام سقوط الطاغية، غادركَ الوطنُ والمنفى معاً.
تحررتَ من وطأتهما مرةً واحدة، واستوى لناظريك القريبُ والبعيد، الأصلُ والبديل.
صرت كائناً آخر يرى الزّمنَ مستقطَباً، كلّه حضورٌ وكلّه غياب.
ذلك الزمنُ الطويلُ الثقيلُ..... الثقيل، ذلك الزمن الوشيكُ المستحيل، زئبقياً صار منفلتاً يجرفك مع البقايا.
وأنتَ ما عدتّ ذلك العاشق الوفي الأزلي ولا الإبن الضّال.
أنتَ إبنُ الغربة البسيطُ الذي لم ينسج أيامه من هباء.
إيقونةُ الوطنِ التي آنَستك في وحشة الطريق، خبت فجأة تحت رماد الإحتفال،
لا نورٌ بعدها ولا رحمة، لا موعدٌ ولا إنتظار،
عينٌ للشرق وأخرى للغرب،
عبثٌ يتوالد من روح المعنى، عبث يغمر المعاني.

تعودُ ولا تعودْ. هل عاد يوليسيس حقاً؟ هل تكتمل الرحلة في محطة أخيرة؟
تعودُ ولا تعودْ.
بوصلتك الخفية تهديك نحو الشروخ وخطوط الإنزياح.
سترثُ في الوطن غربة المنفى، وتمكث في ظلال التناسخ حائراً.
بوصلتك تدعوك لأن تحدق في الأعماق، هناك حيث تبهت خطوط التقاطع والاختلاف.

إعادة تعريف الفن حفاظاً على

الإبداع

ألان سيغوي ـ دوكلو
ترجمة: كامل شياع

ما أن تبدأ المناظرات حول الفن المعاصر حتى تبلغ غالباً حالة من الفوضى، إن لم يكن حالة من الطعن والذم. ما الدور الذي يمكن للفيلسوف أن يلعبه هنا، من دون أن يجعل من نفسه بديلاً عن المختصين ونقاد الفن، حيث لكل واحد من هؤلاء اختصاصه المحدد؟ يمكن لتدخل الفيلسوف أن يجلب بعض الصرامة والوضوح النظري للنقاش. ينبغي علينا هنا أن نتحدى مبدأ التجانس. فباسم هذا المبدأ، إفترض ديكارت خطأً عقلانية موضوع العقل العارف. أما معارضو ديكارت، فبرفضهم لعقلانية الواقع، زعموا باسم المبدأ نفسه أنهم متحررون من جميع القيود العقلية. وفق هذا النظرة، مر وقت طويل منذ أن رفض علم الميكانيك الكمي، الذي فرض التجانس الجذري لموضوعه إرتباطاً بالتفكير العقلاني، اللغة الرياضية ؟ ولم يكن مصيباً في هذا تماماً .... لنكن أكثر عقلانية حين يكون موضوعنا أقل عقلانية، هذه هي الوسيلة الأسلم لكل من يحاول التفكير في الفن.

الفن والفنون

يـمر الفن المعاصر بأزمة. وغدا هذا أمراً مسلماً به. وينبغي، والحالة هذه، أن نفهم الأزمة التي نتحدث عنها. أن استمرارية هذه الأزمة تجعلنا نفترض أنها بالفعل أكثر أهمية بكثير مما كنا نعتقد عموما. إنها، في الواقع، أزمة فهم نظري .
ولغرض إدراكها بصورة أفضل ، ينبغي على المرء أن يخرج من الإطار الضيق جداً للقرن العشرين. فالفن كما نفهمه، أو بالأحرى كما لا نفهمه ما دمنا نكرر أنه غير قابل للتعريف، هو مفهوم حديث نسبياً . فقد ظهر، لأول مرة، في فرنسا في منتصف القرن الثامن عشر.
خلال ما يزيد على مائتي سنة، اشتغل المنظرون على مفهوم واحد هو مفهوم التقنة (techne ) اليوناني، الذي تُرجم إلى فن ( ars) باللاتينية، و ( art ) بالفرنسية. وصار يشار إلى فن الرسم مثلما يشار إلى فن البناء أو فن إعداد الخبز. الفن هنا يشير إلى أي تقنية خاضعة لقواعد محددة يتطلب إتقانها تعليماً خاصاً. لذلك انصب موضع الرهان الرئيسي على معرفة ما إذا كان الفن حراً ( بمعنى قمين بالإنسان الحر، وقابل لأن يمارس من قبل إنسان نبيل دون أن يحط من قدره)، أو في المقابل، ميكانيكياً. فالحساب وعلم الفلك والموسيقى والشعر اعتبرت، بسبب تجريديتها، من ضمن الفنون الحرة؛ بينما اعتبر الرسم والنجارة والزراعة من ضمن الفنون الميكانيكية واليدوية. كان كل طموح ليوناردو دافنشي، لتأسيس الرسم على المنظور الهندسي، يكمن في رفع مكانة هذا الفن إلى مصاف الفنون الحرة.
غير أن الأمر قد تغير في فرنسا بحدود العام 1750. فقد حصل فجأة أن فُصل الرسم والموسيقى والنحت والشعر، بصورة جذرية، عن الفنون بشكل عام. وظهر هذا التمييز، بشكل خاص، في الاختلافات الدلالية التي أخذ بها في قاموس الأكاديمية الفرنسية لعام 1752 تحت مدخلي الفنان والحرفي. فخلافاً للحرفي، يتميز الفنان بامتلاكه للعبقرية. هذا المفهوم، ذو الأصل الإفلاطوني، طرحه المنظرون الفرنسيون بموازاة المفهوم الجديد للفن. العبقرية تتطابق مع الجوهر غير الـحِرَفـي للفن، وتجد مصدرها في صيغة غير عقلانية للإلهام. في غضون سنوات قليلة، جرى تبني المفهومين الجديدين للفن والعبقرية من قبل المنظرين الإنكليز و الألمان. حدث ذلك بطريقة جعلت استعمالهما، بحلول نهاية القرن الثامن عشر، شبه شامل في العالم الغربي. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد. فإذا ما تمّ، منذ ذلك الوقت فصاعداً، التمييز بين مصطلحي الفن والصنعة، غدا من الضروري إيجاد مصطلح جديد يشير دون لبس إلى ما كان اليونانيون قد عنوا بمفهوم التقنة (techne ). ففي سياق القرن الثامن عشر، وُلـد، نتيجة الترجمة المباشرة عن اليونانية، مصطلح تكنيك الذي يرادف المفهوم القديم للفن. وأصبح من الممكن إعادة تعريف المفهوم الجديد للفن بوصفه مرادفاً، في جوهره، لما هو غير تكنيكي. إضافة إلى هذا، غدا من السهل التحقق من أنه منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا شكّل التعارض بين الفن والتكنيك النقطة الأساسية المشتركة للحداثة . من الواضح أن الأمر يتعلق بثورة مفهومية معقدة وعميقة ما زلنا نفكر حتى الآن ضمن حدودها. لكن لماذا حصلت هذه الثورة في منتصف القرن الثامن عشر، وفي فرنسا على وجه الخصوص؟ يمكن العثور على الجواب بدراسة المذهب الكلاسيكي الذي هيمن على فرنسا القرن السابع عشر. لم يقتنع الكلاسيكيون الفرنسيون، الذين كان يتزعمهم بوالو (Boileau )، بالدفاع عن نظرة تكنيكية إلى الشعر وفق النموذج السائد الذي جاء به كتاب أرسطو " فن الشعر" 1. بل أنهم جعلوا تلك النظرة غير مقبولة نتيجة تحويلهم القواعد التجريبية لأرسطو إلى قوانين عقلية، كان لها أن تفرض، إضافة إلى ذلك، بتطابق مع الأخلاق، مساواة ما بين الجميل والصالح والصحيح. وكان الضحية الأولى هو الكاتب ((Corneille إثر السجال المشهور حول مسرحية (Cid )( كتبت عام 1637 وهي واحدة من أربعة أعمال تراجيدية مهمة لكورني ـ المترجم). فقد انتقده بعضهم باسم أرسطو، في حين استند كورني، دون جدوى، على نص أرسطو نفسه واتخذه حجة ضد نقاده .
وجاء رد فعل الفنانين والمنظرين ضد سطوة مفهوم التكنيك في نهاية القرن السابع عشر. فقد دخل التكنيك آنذاك في صراع مع الإبداع، وصار من المحتم تخليص هذا من ذاك. وحين اتخذ المنظرون موقفاً مناقضاً للنظرية الكلاسيكية، فانهم وضعوا الخيال والعواطف في مواجهة العقل، ووضعوا العبقرية، من حيث هي قدرة إبداعية عفوية ومباشرة، لا عقلانية ومتعالية وحرة بصورة مطلقة، في مواجهة التكنيك. ولم تؤد الثورة المفهومية التي حصلت في منتصف القرن الثامن عشر إلا إلى إقرار وتكريس انتصار العقيدة الجديدة ضد الكلاسيكية. وانتشر نجاحها النظري بسرعة خارج فرنسا لأن الأجانب أنفسهم كانوا قد عانوا كذلك من النموذج الضيق للكلاسيكية الفرنسية. هكذا كان الحال بالنسبة للمنظرين الألمان الذين عملوا على تأسيس الأدب الألماني على أرضية مستقلة عن أي تأثير خارجي. لذلك انشغلوا خصوصاً في تفكير عميق حول المفهوم الجديد للفن بمعناه غير التقني (الحِرَفي)، وكذلك حول المفهوم الفرنسي للعبقرية (genie ) - حيث تبنى الألمان المفردة الفرنسية ذاتها. النتيجة الرئيسية لذلك تمثلت في ولادة الرومانسية الألمانية التي يرجعها البعض خطأً إلى ميل تصوفي غامض للذات، والتي شمل تأثيرها القرن التاسع عشر بأجمعه، وامتد إلى القرن العشرين أيضا. 2

السلم التراتبي للفنون

يشمل المفهوم الجديد للفن جميع الفنون التي رفضت سلطة الكلاسيكيين، والتي تدافع عن حرية العبقرية : كالشعر والرسم والنحت ..الخ. يمكن للمرء هنا أن يسأل نفسه ماذا حصل للتمييز القديم بين الفنون الحرة والفنون الميكانيكية أو الحرفية. وقد ظن البعض أنه قد اختفى، أو أزيل نتيجة تغيير الحدود المفاهيمية. لكن ذلك ليس هو واقع الحال. فقد حافظ التمييز على وجوده بطريقة خفية. ويستدل عليه المرء بلرجوع إلى السلالم التراتبية التي اخذ بها منظرو الرومانسية الألمانية ، وبشكل خاص شيلينغ وهيغل. مرة أخرى تم وضع الرسم والنحت في أدنى السلّـم بسبب طبيعتهما المادية. في المقابل، وضعت الموسيقى والشعر في أعلى الساّـم.
هذا السلم التراتبي الذي هو المحرك الجوهري وراء التحولات الرئيسية في الإبداع الفني التي وقعت في بداية القرن العشرين، مثل ولادة الرسم غير التشخيصي والموسيقى التتابعية أو المتسلسلة (musique sérielle). كان منظرو القرن العشرين مبهورين جداً بجذرية تلك التحولات إلى حد الاعتقاد بأنهم يشهدون ثورة في معنى الفن. غـير إن تفسيراً كهذا لا يصمد أمام التحليل.
لنعود الآن إلى المقالة المشهورة لكاندينسكي المعنونة "عن البعد الروحي في الفن " التي دافع فيها عن الفن التجريدي ضد الفن التشخيصي المستند على التقاليد. وتمضي حجته على النحو التالي : لكي يصبح الرسم غير تشخيصي، أي من أجل أن يهجر تمثيل الواقع المادي، عليه أن يكون روحياً، وبذلك يرفع مقامه في السلم التراتبي للفنون. لهذا الغرض أشار كاندينسكي أن على الرسم ان يجد مثاله في الفن الذي يسبقه مباشرة على السلم التراتبي، أي فن الموسيقى. إن إضفاء بعد روحي على الرسم يعني جعله موسيقياً.
لم يكن نص كاندينسكي هذا معزولا عن محيطه. ففي ذات العصر اكتشف موندريان أن في الفن " نمواً بطيئاً باتجاه الروحانية " ( دفاتر 1914 ). والتجريد هو الأداة المناسبة لبلوغ ذلك. ما ينبغي اتخاذه نموذجاً ليس الموجودات المحسوسة، بل الأشكال الهندسية الخالصة، ذات البعدين لا الأبعاد الثلاثة : " من أجل بلوغ البعد الروحي في الفن، ينبغي استخدام الواقع بأدنى درجة ممكنة، لأن الواقع هو نقيض البعد الروحي. نتيجة لذلك، يكون اللجوء إلى الأشكال الأولية البسيطة قابل للتفسير منطقياً. ولكون هذه الأشكال مجردة، نجد أنفسنا وجهاً لوجه إزاء الفن التجريدي "
رغم تناقضه الظاهري ، فإن مشروع كاندينسكي وموندريان يتماثل بالضبط مع مشروع دافينشي لرفع الرسم إلى مرتبة الفنون الحرة والروحية. مع كاندينسكي وموندريان تمّ، ببساطة، بناء المشروع في إطار ثورة المفاهيم الفاعلة منذ القرن الثامن عشر. إن عملية إضفاء بعد روحي على الرسم بواسطة الموسيقى والهندسة نجمت عن رفض جميع تقنيات التصوير التقليدي من أجل ضمان عبقرية الإبداع. ويجد المرء في الطابع الرياضي للموسيقى التتابعية ذلك الطموح الروحي القائم أيضاً على رفض النظام التقني المقيِّد الذي تمت صياغته في القرن السابع عشر، أي النظام التونالي (النغمي).

الفن والجمال

يمنح إرجاع الثورة الفعلية إلى منتصف القرن الثامن عشر، وليس إلى بداية القرن العشرين كما جرى الاعتقاد غالبا، أفضلية رئيسية تتمثل بإعطاء معنى لعلم الجمال في جميع مناحيه.
بدءاً، لنكن حذرين من الوقوع في خلط شائع بين نظرية الفن وعلم الجمال. فنظرية الفن تتعلق بإبداع العمل (الفني) من قبل الفنان، أما علم الجمال فيتعلق باستقباله من قبل المتلقي. فليس كل موضوع جمالي هو موضوع فني. ويمكنني، مثلا، أن اعتبر منظراً طبيعياً ما جميلاً وسامياً دون أن افترض وجود إله خالق له. والعكس صحيح أيضاً، فليس كل موضوع فني هو موضوع جمالي. لهذا يمكنني أن أكون غير مبال بتاتاً من الناحية الجمالية إزاء عمل أنتج من قبل أحد الفنانين .
حسناّ، بفعل مصادفة غريبة يعود تاريخ النظرية الجمالية إلى منتصف القرن الثامن عشر . فلم تظهر مفردة الجمال لأول مرة إلا في العام 1750. وكان المنظرون الألمان من منحها معناها الحديث في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
هل كان ذلك مجرد مصادفة ؟ لا أعتقد ذلك. لقد رأينا أن المفهوم الجديد للفن تم تشكيله بفعل التعارض بينه وبين التقنية (الحرفة)، وبالرجوع إلى مفهوم العبقرية. مع القبول بهذه النقطة، تفرض مشكلة تقييم الأعمال الفنية نفسها. حتى ذلك التاريخ ، لم تكن هذه القضية ذات طابع إشكالي خاص. كانت المعايير بالنسبة للرسم أو الموسيقى، وللزراعة أو النجارة، هي نفسها: معايير تكنيكية (حرفية) فقط. فمن أجل تقييم منتج ما يكفي تشكيل لجنة تحكيم فنية مكونة من صناع معترف بهم ومن مستعملين ( أو مستهلكين ) متنورين. ويكون للحكم بعد موضوعي.
لكن بدءاً من العام 1750 لم يعد ذلك ممكنا. ذلك لأنه إذا كان جوهر الفن يكمن تحديداً في كل ما ليس له علاقة بالتكنيك، فإن النظر إلى العمل الفني من الناحية التقنية فقط يعني حتما العجز عن إدراك فحواه. إن تقييماً موضوعياً كهذا يتماشى مع نفي الصفة العبقرية للفنان، وبالتالي للفن.
لذلك لزم إخضاع حالة التقييم إلى إعادة تفكير. فإذا لم تكن هناك معايير موضوعية، تصبح جميع التقييمات ذاتية بحكم الضرورة. وهي كذلك لأنها لا تستند على الاعتراف بالخصائص الموضوعية للعمل، وإنما على الشعور الخالص للمتلقي. لذلك هيأت القضية الجديدة للتقييم ظهور نظرية الإدراك الحسي للأعمال الفنية. يرجع مصطلح علم الجمال (Esthetique )، في أصله، إلى المفردة اليونانية ( aithesis ) وتعني ملكة الشعور أو الإحساس. بناءً على ما تقدم، أصبح من المطلوب إنشاء نظرية جمالية. وكانت القضية الشاغلة لعلم الجمال الناشيء حديثاً بلوغ إجماع في تقييم الأعمال الفنية، في وقت يستند فيه هذا التقييم على المشاعر الذاتية العادية للجمهور المتلقي.
وهذه مشكلة عويصة بشكل خاص. فالشعور الذاتي يبدو بطبيعته فردياً وعابرا. ولا يُلزم سوى صاحبه، كما لا يقبل فرضه على أي شخص آخر. رغم ذلك ، ينبغي التمكن من التفكير بلغة الإجماع عند تقييم الأعمال. ويكفي لهذا الغرض النظر إلى حالة الفنون التشكيلية. فأعمال النحت، وبوجه خاص أعمال الرسم، هشّة وقابلة الكسر. والدور الرئيسي للمتحف يتمثل في حفظ الأعمال: لهذا السبب يسمى مديره أمين متحف. لكن المتاحف لا تستطيع أن تحفظ جميع اللوحات والمنحوتات. لذلك لا مناص من الاختيار بينها. وهذا الاختيار يستند على أساس موضوعي. وهو يهدف إلى تقييمها تقييماً موضوعياً لا يمكن بدونه تبرير اختيار عمل دون آخر. كيف يمكن تبرير عمل أمين المتحف وعمل المتحف ذاته إذا لم يكن لدينا سوى تقييمات ذاتية؟
دون أدنى شك، يقدم علم الجمال الكانتي الإجابة الشافية لهذه المشكلة. ويمكن تلخيصها في أن التأمل الجمالي يختلف جذرياً عن الإحساس العادي بالمتعة لأن هذا الأخير بطبيعته فردي وعابر. الإحساس بالمتعة يهدف دائماً إلى إشباع الرغبة المرتبطة بوجود الموضوع. فعلى سبيل المثال، عندما أتناول قطعة حلوى، فإن إحساسي بالمتعة ينشأ من رغبتي المعتمدة بدورها على وجود قطعة حلوى. وحين اكتشف أن قطعة الحلوى فكرة وهمية، يختفي مباشرة الشعور بالإشباع. لنتخيل الآن أنني وجدت قطعة الحلوى لذيذة جدا. إن رغبتي فيها ستتأجل مباشرة. وسأشعر بالتردد من أكلها، لأن ذلك يعني قطع الشعور الشكلي بالانسجام الذي تثيره القطعة في نفسي. أي أن رغبتي ستدخل في صراع مع إدراكي الجمالي. وإذا اكتشفت أن قطعة الحلوى هي مجرد صورة وهمية، فإن إحساسي الجمالي سيبقى دون تغير مثلما هو الحال عندما أكتشف أن المشهد الطبيعي الذي يثير إعجابي هو ليس أكثر من وهم أو إسقاط لصورة على قماشة بيضاء. إن وجود الموضوع هنا ليس أمرا ذا أهمية. فتأمل موضوع ما من زاوية جمالية، يعني الوقوف إزاءه دون رغبة، أو بصورة منزهة من الأغراض. يختلف الناس ويتناقضون فيما بينهم انطلاقا من رغباتهم ومصالحهم. مقابل ذلك، حين لا تسوقني الرغبة أو المصلحة فأنني سأغدو نظيراً لأي إنسان آخر. لذلك أكون محقاً حين أتوقع إن حكمي الجمالي، إذا توفر فيه التجرد حقاً، قابل لأن أتقاسمه مع الآخرين. في جوهر الطابع الذاتي للإدراك الجمالي اكتشف إذن بعداً أصيلاً ذا طابع شامل وضروري يلازم عادة النظرة الموضوعية. رغم طابعه الذاتي، فإن التقييم الجمالي هو تقييم شبه موضوعي.
كان لهذا الحل تأثير كبير على علم الجمال الحديث بأجمعه. ويكفي الاطلاع على المقالات المعاصرة في علم الجمال لملاحظة أن نظرية كانت (Kant) هذه أعتمدت كمرجع رئيسي. مع ذلك، فإن نظريته خضعت لنقد قوي من مختلف الاتجاهات بما يدفع إلى التشكيك في دوام صحتها. فلو غضضنا الطرف عن فرويد، بوسعنا أن نتذكر فقط نيتشة الساخر بشدة من الادعاء المزعوم عن انعدام دور الرغبة عند من يؤمن بفكرة كانت وهو يقف وجها لوجه أمام تمثال شخص عار. في حقيقة الأمر، فإن ما هو غير مقبول في نظرية كانت يعود إلى إهمالها تأثير البعد المادي للعمل الفني في عملية الإدراك الجمالي. مثل هذا الإهمال لا مناص منه عند كانت لأن المادة هي التي تمنحنا الشيء الموجود بالفعل. لكن من أجل أن يصبح الحكم الجمالي نزيها عليه أن يكون شكلياً أو صورياً. في هذه الحالة من ذا الذي بإمكانه إقناعنا أن كثافة اللون في لوحة من لوحات فان كوخ ليست عنصراً حاسماً في الشعور الجمالي الذي تثيره فينا ؟ كذلك ليس أمراً ثانوياً، من الناحية الجمالية، كون العمل مصنوعاً من الرخام أو البرونز أو الذهب أو العاج. الشكل لوحده لا يكفي. وإذا تدخلت المادة، فسنجد أنفسنا مرة أخرى بمواجهة الوجود، ومن ثم الرغبة والمصلحة. وما يفرق الناس ويزرع بينهم التناقض هي الرغبات والمصالح ……

إشكالية علم الجمال النسبي

انطلاقا مما تقدم، فإنه من الممكن الآن الإحاطة الكاملة بالمشكلة المضاعفة التي تجابه نظرية الجمال ونظرية الفن في نهاية القرن العشرين .
لنبدأ أولا بعلم الجمال. فأطروحته الأساسية تقول بأن جميع التطورات في الأعمال الفنية هي ذات أصل ذاتي، مما يضعها على الطرف النقيض لنظريات التقييم الموضوعي السابقة لها والتي تستند على الفهم التقني للإبداع. يعني هذا سقوط محاولة كانت لمنح الحكم الجمالي بعداً أقرب إلى الموضوعية، أي بعداً شاملاً وضرورياً. نتيجة لهذا، ينبغي للمرء أن يطابق الحكم الجمالي مع حكم المتعة البسيط، وهو حكم يتميز بطابعه الذاتي، الفردي والعابر. وإلى هذه النتيجة توصل جيرار جنيت في الجزء الثاني من كتابه " العمل الفني " الذي عالج موضوع العلاقة الجمالية . فالقول أن " هذا جميل " يرادف ببساطة القول " أنه يروق لي " دون أن يتطلب ذلك تقديم أي تبرير موضوعي للحكم. يمكن اعتبار موقف جينيت متماسكاً، إذا ما قبل المرء بالمسالك النظرية الغريبة التي قادت جينيت إلى العودة إلى النظرية الكانتية عن التذوق المنزّه من الأغراض بالرغم من رفضه، في الوقت نفسه، للعواقب المنطقية الناجمة عنها والتي هي الشمولية والحتمية الذاتية للحكم الجمالي .
المشكلة في هذا الاستنتاج أنه يقود إلى نظرة نسبية صارمة. ونجد أنفسنا عندئذ في مواجهة مسألة التقييم ذي الطابع الموضوعي فعلا للأعمال الفنية من قبل أمين المتحف الذي يقرر اختيار عمل محدد دون سواه. كيف يمكن تبرير هذا ؟ سيكون من الصعب على من يأخذ بالنظرة النسبية أن يجيب على هذا السؤال. سيبدو المتحف إذن مجرد تعبير عن الأذواق الفردية والعابرة للأمناء المسؤولين عنه، وهي أذواق لا تملك أي حق للإدعاء بأنها أفضل من ذوق الجمهور. ويجوز للمرء ، في هذه الحالة، أن يتساءل عن ضرورة تقديم دعم من أموال الدولة إلى مؤسسات اعتباطية كهذه .
دون شك فأن جينيت محق حين قال أن تفضيل هايدن على تشايكوفسكي يستمد صحته من اعتبارات ذاتية. لكن قضية تقييم الأعمال الفنية لا تقتصر على تفضيل عمل فني على آخر, لأنها ترتبط بالتمييز بين عمل مهم وآخر عادي وذلك لغرض تحديد أي من الأعمال يستحق الحفظ في الذاكرة البشرية. هنا يمكن للمرء أن يتساءل فيما إذا كان تفضيل العمل الخالد المعنون كونسرت إلى ذكرى ملاك للموسيقار إلبان بيرغ على عمل أقل خلودا مثل أغنية فيان بوبول ( أي تعالي بوبول حيث تعني بوبول بالفرنسية المرأة المغناج - المترجم) لمؤلف لا يحضرني اسمه الآن، يستند على تقييم ذي صلة بموضوع حديثنا.
يمكن لأحد ما أن يجادلني بأنني أرسم كاريكاتيراً للنظرة النسبية, كاريكاتيراً لا يقود بالضرورة إلى حالة تتساوى فيها الأشياء مع بعضها. إذا ما أخذنا بما قاله إيف ميشو في كتابه " المعايير الجمالية وحكم الذائقة " ستكون هناك معايير مناسبة لكل شكل من أشكال التعبير الفني، مما يساعد الناقد على أن يعمل وفق سلم تراتبي. أما النظرة النسبية فتتضمن ببساطة القول بعدم مشروعية استخدام سلم تراتبي واحد لتصنيف عملين فنيين ينتميان إلى نوعين مختلفين من الفن. كل هذا يبدو مقنعا لنا. لنأخذ عل سبيل المثال النجاح الذي لا جدال فيه للموسيقى التي تدعى كلاسيكية ( لدينا في هذه الحالة كونسرت إلى ذكرى ملاك لبيرغ ) وللأغنية الشعبية المنبثقة من حياتنا ( فيان بوبول ). ينبغي علينا أن نرفض التفكير بوجود تفوق فني للمثال الأول على المثال الثاني، وأن نقبل، من منطلق فرضية الاختيار الضروري بينهما، أن أغنية فيان بوبول هي فقط التي سيتم حفظها في ذاكرة البشرية ….. هكذا نرى أن النظرة النسبية، حتى لو كانت معتدلة، ليست مؤهلة لحسم مشكلة التقييم .
بوسعنا أن نضيف أيضاً أن من الصعوبة بمكان أن نرى كيف يمكن حل المشكلة ضمن سياق علم الجمال، على الأقل . فإذا ما تصورنا قضية تقييم الأعمال الفنية ضمن إطار نظرية جمالية من النوع الذي لا يأخذ إلا الشعور الذاتي للمشاهد ، فسيغدو من غير الممكن إضفاء المشروعية على أي قدر من الإجماع في تقييم الأعمال الفنية. إن السقوط الذي آلت إليه فكرة كانت يؤكد رأينا : كل شعور ذاتي هو شعور فردي وعابر لا يقبل اختزاله. فلكل واحد منا حق تام في تفضيل أغنية " فيان بوبول " على " كونسرت إلى ذكرى ملاك ". لا أحد يملك حق إملاء مشاعره على مشاعر الآخرين، لأن هذا يعني إنكار عالمهم الداخلي الخاص . ويصح هذا الرأي على كل شيء: فكل شخص يتمتع بحق تفضيل منتج من السوبر ماركت على عمل عظيم لحرفي بارع. غير أن ذلك لا يحول ، بأي شكل ، دون إمكانية الحكم بأن القطعة الثانية أرفع قيمة من القطعة الأولى. حسبنا هنا التخلي عن وجهة النظر القائمة على المشاعر الذاتية والانكباب على تحليل تقني لعملية إنتاج العمل الفني .
أطروحتي إذن كالتالي: بعد مائتين وخمسين عاماً من المعاناة الطويلة والمريرة، فأن علم الجمال في طريقه إلى الموت اقتراناً بنهاية القرن العشرين. ليغمر السلام رماده. إلا أنه سوف لا تموت معه قضية تقييم الأعمال الفنية. من الممكن إضفاء شيء من الشرعية عليه، لكن بشرط إعادة التفكير في البعد التقني للفن، وهو البعد الذي جرى استبعاده كلما تعلق الأمر بتقييم الأداء أو التمثيل الفني وليس الإبداع الفني. ماالذي يستند عليه المحكِّمون عند الحكم على أداء ممثل أو مغن أو عازف ؟ إنهم يستندون على دراسة تقنية الأداء .

الفن والتقنية

وصلنا الآن إلى العقبة الرئيسية التي تواجه حالياً نظرية الفن. لقد رأينا أن المفهوم الجديد للفن قد تم تحديده من منطلق التعارض مع التقنية أو الصنعة. هذا التحديد لا يقود فقط إلى نظرة جمالية نسبية، وإنما أيضا إلى عدم القدرة على التمييز بين ما ينتمي إلى الفن وما لا ينتمي إليه. وهكذا يغدو من المتعذر التوصل إلى أي تعريف للفن؛ الأمر الذي يبدو متناقضا بحد ذاته.
بالفعل، إن التمييز الجذري بين الفن والصنعة يؤدي اعتبار أن كل ما لا ينتمي حصراً إلى العمل ضمن نطاق الإبداع متنافر مع جوهر الفن. نتيجة لهذا يصبح من المحتم البحث عن جوهر الفن، بأعلى درجاته نقاءً، هناك حيث يكون العمل المبدع غير موجود. هذا " النقاء " يميز تحديداً أعمال المواد الجاهزة (ready –made )، التي كان مارسيل دوشان أول من اخترعها. فالعمل الجاهز هو موضوع الإنتاج الصناعي الواسع ( مثل صندوق القناني أو مجرفة الثلج...الخ ) الذي يجعل منه الفنان، بكلمة بسيطة منه ودون بذل أي عمل، مرادفا للعمل الفني . إن العمل الجاهز هو، إلى حد ما، التركيب الخالص (بالمعنى الكيميائي) المتحقق أخيراً في العمل الفني. ولا يمكن للمرء أن تأخذه الدهشة إذا ما لاحظ أنه منذ العام 1910، وهو العام الذي يؤشر ظهور الأعمال الجاهزة الأولى لمارسيل دوشان، تم تقليد تلك المبادرة بشكل واسع من خلال تنويعات متعددة للإحتفاء بخيال مخترعها. وتم أيضاً، في هذا السياق، استبدال الموضوع الصناعي بالموضوع الطبيعي ( مثلاً عرض صخرة عثر عليها في الطريق ) أو نفايات (صناعية أو حيوانية ) ..الخ . ويتمثل الأمر في جوهره في حصول اتفاق عام على اعتبار الموضوع الأساسي للفن ذي طبيعة غير فنية، وأن هذا الموضوع يتحول إلى عمل فني دون بذل أي جهد محدد، وإنما نتيجة عبارة يطلقها عليه الفنان تؤكد أن " هذا فن ". كذلك لا يمكن للمرء أن تأخذه الدهشة من ملاحظة أن أغلب المنظرين المعاصرين يواجهون السؤال عن ماهية الفن انطلاقاً من تحليل الأعمال الجاهزة.
بفعل مبادرة دوشان هذه تطمس جميع الاختلافات الطبيعية بين ما ينتمي إلى الفن وما لا ينتمي إليه، ما دام من الممكن لأي موضوع أن يصبح في أي لحظة معطاة عملا فنياً. ويمكن لحجم المشكلة أن يتضاعف في هذا المجال. لسنا هنا بصدد دراسة جميع التناقضات المترتبة على مبادرة دوشان الذي بينما أكد أن أي شيء يمكن أن يكون فناً، حطم كل تمييز ممكن بين الفن واللافن، وقوض بحركته تلك أية مصداقية لما أراد تأكيده. موضع الرهان في حركة دوشان يقوم في إثارة مفارقة منطقية قابلة للمقارنة مع مفارقة الكذاب التي تنص على أنه حينما أقول أنا أكذب فأني أؤكد أن جميع ما أقوله غير صحيح، لذلك عندما أقول أني أكذب، فأني أتفوّه بعبارة زائفة، أي أنه ليس صحيحا أني أكذب، أي أني أقول الحقيقة عندما أقول أنا أكذب …..الخ .
سأكتفي أدناه بتقديم ملاحظة مختصرة. في الواقع، لا يقتصر العمل الجاهز على الفن التشكيلي ؛ إذ أن من الممكن جداً تصوره في الأدب ( بإطلاق اسم " رواية " على مقال عن تاريخ صناعة التعدين )، وفي السينما (بإطلاق اسم " فيلم بوليسي " على شريط فيديو للمراقبة الأمنية في موقف للسيارات ). ومن المحتمل أن محاولات كهذه حصلت فعلاً، لكن أقل ما يقال عنها أنه من غير الممكن منح هذه المحاولات نفس الأهمية المتحققة لها في الفنون التشكيلية. كذلك لا يمكن وضع مؤلفيها في مصاف بروست أو كافكا ، آيزنشتاين أو غريفيث .
مصدر الاختلاف هنا يكمن في الثقل الخاص الذي تتمتع به مؤسسة المتحف في مجال الفنون التشكيلية. إذ يكفي أن يقبل أحد أمناء المتاحف مرة بعرض عمل جاهز لمارسيل دوشان ( الذي هو أيضا رسام بارع، لكن هذا لا يهمنا هنا ) لإسباغ صفة رسمية على انتمائه لعالم الفن، علاوة على جعله ذي قيمة مساوية لبقية الأعمال الفنية المعروضة في المتحف. جورج ديكي الذي هو أحد المنظرين الأمريكيين المنطقيين في تفكيرهم استنتج بصورة طبيعية أن الفن يجد أساسه في مؤسسة المتحف. لذلك شيد المنظرون الأمريكيون نظرية مؤسسية للفن اصطدمت مباشرة مع مشكلة معرفة في ما إذا كان عمل فنان ما زال مجهولاً، منتجاً بعزلة في مشغله، وبصورة مستقلة عن أي إعتراف من قبل المؤسسة، هو عمل فني .
في الواقع ، أن من الواضح أن مرجع الفن لا يكمن في المؤسسة وحدها، كما أنه من الواضح أن الأعمال الجاهزة وعدداً كبيراً من الأعمال التي تتبنى هذا الأسلوب تعتمد على المؤسسة حصراً. في الحقيقة ، إذا ما سرق من المتحف عمل جاهز، أو واحد من تنويعاته، ثم ترك على قارعة الطريق، فإنه سيهبط فجأة إلى حالته اللافنية البدائية، وسوف لا يعده أحد عملاً فنياً. في مقابل ذلك، يصعب تخيّل حصول اعتراف قائم على المؤسسة فقط في الفنون الأخرى نظرا لغياب دور المتحف فيها. لا تملك المكتبة العامة أو نادي السينما ( أو أنها لا تملك حتى هذه اللحظة ) سلطة إضفاء الهالة ذاتها التي للمتحف. ولا أعتقد أنه يمكن لأمين مكتبة أن يتخيل تغيير طبيعة كتاب عن الرياضبات بوضعه على الرفوف المخصصة للروايات، تماشياً مع قصد فنان ما. لذلك فالقيمة الحكائية لعمل الموضوع الجاهز في الأدب أو في السينما يمكن أن تكون قد انتجت من قبل المقلدين الجيدين لدوشان.
هذه الصفة المؤسسية الخالصة لموضوع العمل الجاهز في الفنون التشكيلية تفسر، إلى حد كبير، عنف النقاشات الدائرة حوله. موضع الرهان هنا يتمثل في صراع قوى. ولا ينطوي جدل المتخاصمين على أهمية تذكر وغالباً ما تؤدي وجهات النظر المتعارضة إلى شتائم. إن تحليل نقاشات كهذه يتطلب بالأحرى معالجة أيديولوجية أو سوسيولوجية. لكن من زاوية النظر الفلسفية البحتة، فإن مفهوم العمل الجاهز هو مفهوم متناقض بحد ذاته، ويستند على وهم وجود جوهر خالص للفن يمكن بلوغه في غياب أي صنعة.

إعادة تعريف الفن

إن استنتاجنا، سواء تعلق الأمر بالنظرية الجمالية أو بنظرية الفن، يبقى هو هو دون تغيير. فالتمييز الجذري المعمول به منذ حوالي العام 1750 بين الفن والصنعة قد بلغ طريقا مسدودا .
إذا ما حاولنا الخروج من هذا الطريق، هناك برأيي حل واحد لا غير. الحل هو إعادة تمحيص التمييز المذكور ومراجعته، أي إعادة إضفاء الشرعية على الفهم التقني الذي كان سائداً في جميع الإبداعات التي ظهرت حتى القرن السابع عشر. فمنذ ذلك التاريخ قام الكلاسيكيون الفرنسيون بتحوير خاطيء للنموذج الأرسطي، الذي هو أصلا نموذج تجريبي، ليصبح نموذجاً عقلياً أو أخلاقياً، ضيقاً ومقيّداً بصورة مطلقة.
لكن هل ينبغي العودة إلى أرسطو والقيام ببساطة وبصورة تامة بشطب الثورة المفهومية التي حصلت في القرن الثامن عشر ؟ هل ينبغي علينا أن نقرر ليس فقط موت علم الجمال، ولكن أيضا موت الفن بمعناه الحديث ؟ بالتأكيد لا. أعتقد أن النظريات التي عارضت المفهوم التقليدي للفن تنطوي، بالفعل، على قدر من الصحة. هناك حقاً اختلاف جذري بين الرسم والنحت والشعر …الخ، أي أشكال الإبداع التي تنضوي تحت مفهوم الفن الحديث،من جهة، وبين الحرف الأخرى كالنجارة والزراعة وفن الخبز ..الخ. أن التمييز بين الفنان والحرفي ليس خالياً من المعنى. لكنه يتطلب ببساطة إعادة التفكير فيه. إن موضع الرهان هنا لا يتمثل في الاختلاف بين عمل غير تقني وآخر تقني، وإنما في الاختلاف بين نمطين متباينين من التقنية أو الصنعة.
فليسمح لي القاريء أن أعرض باختصار فهمي لهذا الاختلاف. تهدف التقنيات، بالمعنى التقليدي الأرسطي لها، إلى انتاج أشياء مادية: طاولة، قمح أو خبز. وهي تتطلب إشراك إدراكنا الموضوعي والعقلي للواقع. إما التقنيات الفنية فتبدو لي ذات صفة مختلفة تماماً. فالموضوعات التي تنتجها ( مقطوعة موسيقية أو لوحة أو قصيدة .... إلخ) لا تمثل عناصراً من الواقع تدخل في علاقة سببية مع الأشياء الأخرى الموجودة في العالم. إنها تمثل عوالم قائمة بذاتها، ينحو تأملنا لها بالضرورة إلى حرف اهتمامنا عن الواقع الموضوعي. إنها من حيث الجوهر ذات طابع مسلٍ. ويستلزم إنتاجها تقنية ابداعية تختلف تمام الإختلاف بوسعي اعتبارها تقنية غير واقعية ولكن رمزية. وهذه التقنية لا تحتاج إلى إدراك موضوعي وعقلي للواقع. لذلك لا تتطلب أية إجادة حرفية أو عقلية من قبل الفنان.
يتجسد فحوى النظرية التي أقدمها في إمكانية بلوغ تركيب أو موائمة بين مفهومي التقنية والعبقرية، وكذلك بين العمل والحرية الخلاقة. في منتصف القرن الثامن عشر، حدثت في فرنسا ثورة مفهومية. ولا يتعلق الأمر هنا بإلخضوع لقدر سلبي مثلته تلك الثورة، أو نكران حصولها، بل في إعادة تفكير شاملة بمعناها من أجل تجاوز الطريق المسدود الذي أصبحنا حبيسين فيه. إذا كانت ثمة ضرورة اليوم لتجنب القصور في فهم الإبداع الفني للقرن الحادي والعشرين، فهي تتمثل في إعادة تعريف الفن.
ـــــــــــــــــــ
( نشر هذا المقال في مجلة أسبري الفرنسية في عددها 8-9 لعام 1999 )
‏Alain Séguy-Duclot: Redéfinir l'art pour ne pas manquer la création,
‏ESPRIT Aout-septembre 1999



1 الشعري هنا هو صفة : العنوان الكامل هو حرفة او تكنيك الشعر ، أي فن الشعر بوصفه تكنيك شعري .
2 لمزيد من الإقناع يمكن الرجوع إلى كتاب جان-لوك نانسي وفيليب لاكو-لابارث " المطلق الأدبي " باريس ، دار سويل 1978 .
. جان-لوك نانسي وفيليبب لاكو – لابارث: المطلق الأدبي، مرجع سابق.
جيرار جينيت ، العمل الفني . الجزء الثاني ، باريس ، لوسيل 1997 .
إيف ميشو " المعايير الجمالية وحكم الذائقة " نيم ، جاكلين شامبون ، 1999 .
. ناقشت هذا المفهوم في كتابي " تعريف الفن " ، باريس، أوديل ياكوب، 1998.

النهضة والتنوير : وعود مؤجلة أم تحديات مفتوحة ؟

بروكسل – كامل شياع
المسار المراوغ والمتقلب لأفكار الإصلاح والنهضة والتنوير ، التي ما انفكت تجـرّب ، منذ قرن ونصف ، فرصتها لكسر الأسس التقليدية التي تقوم عليها مجتمعاتنا ، قد يضع بيد المتأمل دليلا قاطعا على مدى ضعف عوامل الحتمية التي تسوق تاريخنا نحو بدايات منظورة ومرغوبة . رغم جاذبيتها النظرية الكبيرة ، لم ترس تلك الأفكار ، المتقاربة في دوافعها والمتباعدة في منطلقاتها وحججها ، على أرض صلبة ، ولم تعثر لها على حامل تاريخي يترجمها إلى مفردات واقعية ويؤسسها ضمن منطق الشرعية والإجماع . فظلت عائمة ومؤجلة مثل وعود خائبة أو تحديات مفتوحة . ولسنا هنا بصدد بحث الأسباب ، إذ يكفي القول أنه على مستوى الفكر الإسلامي استثارت مفاهيم الإصلاح والنهضة اكثر من استجابة وموقف . ففي تراث مفكري نهاية القرن التاسع عشر كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ، اكتسب " الإصلاح " و " النهضة " دلالة مركزية عندهم ، حيث تمحور اهتمامهم حول ممكنات تخطي تخلف العرب والمسلمين ، واتخذوا من أوربا نداً ومثالاً في آن واحد . وغلّف هذا الموقف المزدوج نفسه بسلسلة من الثنائيات المعروفة كالأصالة والمعاصرة ، التقليد والمعرفة ، والهوية والتغيير ، وسواها .
أما استجابة المنظرين والدعاة الإسلاميين في نهاية القرن العشرين فقد اتخذت منحى مختلفا نسبيا . فهي بعد أن شهدت تداعي التجارب السياسية القومية واليسارية لفترة نصف القرن الماضي ، وفشل نموذج التحديث على الطريقة الغربية ، وتعاظم الشكوك حول شمولية الفكر الحداثي الغربي ، انجذبت إلى أولوية الخصوصية الحضارية على التقدم المادي . المسألة ، بالنسبة إليها ، ما عادت تتعلق بالتقدم واللحاق بالغرب ، وهو أمر يسرته فعليا نتائج التحديث الواسعة والتحولات التي مرت وتمر بها مجتمعاتنا . المسألة الأساسية في منظور الفكر الإسلامي المعاصر تتمثل في المحافظة على الهوية وضمان سلامة العقيدة وطمأنة هواجس التمايز والنقاء الذاتي .
بموازاة الفكر الإسلامي تجسدت مفاهيم النهضة والتنوير في دعوات علمانية صريحة عند الكواكبي وقاسم أمين وسلامة موسى وطه حسين على سبيل المثال لا الحصر . لقد نهل هؤلاء الرواد من مصادر المعرفة الغربية ، وطرحوا مشاريع نظرية تراوحت بين التقليد التام لحياة الغرب وفلسفته الحضارية ، وبين إعادة قراءة التراث ومواءمته مع المعارف والعلوم الوافدة . وكانت لها ، بدرجة أو بأخرى ، أصداء أيديولوجية كالليبرالية والقومية والماركسية .
كتاب " قضايا التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر " الصادر مؤخرا عن مركز الدراسات العربية في بيروت ، ويضم بين دفتيه ثلاث عشرة مقالة سبق لها أن نشرت متفرقة في عقد التسعينات من القرن الماضي ، لا يتوقف عند أي من هذين الوجهين الكلاسيكيين لما يسمى بصدمة الحداثة . فستٌّ من مقالاته تستلهم أو تشرح أو تعلق أو تناقش أو تناظر أفكار محمد عابد الجابري ومحمد أركون وعبدالله العروي . فمن أفكار الجابري التي يتكرر ذكرها في ثنايا الكتاب يشار إلى منهجه في النقد المعرفي ، تحليله لبنية العقل العربي إلى حقول ثلاثة هي : البيان والبرهان والعرفان ، قراءته التاريخية للتراث ، وتقييمه للخطاب العربي المعاصر . هذه الأفكار شكلت نقاط ارتكاز لبعض المقالات ، أو نقاط اعتراض لأخرى كما فعل لؤي صافي أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا ، حيث أخذ على الجابري استعارته للمفهوم الوضعي الغربي للعقل ، وعدم اكتراثه " بمباديء العقل الفطرية ذات الطبيعة الكلية " . ويؤكد صافي ، في المقابل ، على أهمية الوحي في تشكيل العقل العربي ، وعلى خطأ استبعاد الجابري للبيان والعرفان من دائرة البرهان ، ويعتبر ذلك دليلا على تبعيته للنظرة الغربية الحديثة .
أما المنهج التاريخاني لعبدالله العروي فيتناوله سيار الجميل في دراسة تفصيلية ، يخلص منها إلى اتصاف المنهج المذكور بقدر واضح من القسر والإسقاط ، وبقدر أكبر منه من الإرادية والطوباوية . فلا يكفي الانحياز لفضائل التاريخانية من حيث هي تسليم بقوانين تطور شاملة متجاوزة للثقافات ، لنطالب ، كما يذهب العروي ، بفرضها مباشرة على مجتمع كمجتمعنا له خصوصياته وتقاليده وإشكالياته السياسية المعقدة . ويعقب سيار الجميل : إن الاعتماد على المرجعية الأوربية سيفضي لا محالة إلى إدخال مجتمعنا العربي في أطر مؤدلجة ، وسيضر حتما بعمليات تكوين المستقبل العربي . استنتاج مماثل يتوصل إليه السيد ولد أباه الذي يشيد بأهمية اشتغالات الحابري ومحمد أركون من ناحية عدم اعتمادها على نسخة إطلاقية للتنوير ، وتأكيدها على البعد الثقافي في تشكيل العقل ، وبالتالي رفض إمكانية الانفصال التام عن تراث الأمة . لكنه ، أي السيد ولد أباه ، يلاحظ أن التنوير ونقده ، على يد الجابري وأركون ، جاءا من الخارج ، الأمر الذي يفسر الأزمة المزمنة لمشروع التنوير . فما دام المشروع الثقافي العربي يتبنى مناهج التفكير الغربية فإنه " يصطدم برهانات وإشكالات اجتماعية وفكرية محلية تختلف جذريا عن السياق الغربي الذي يربطنا به زمن ثقافي مشترك " ( ص 111 ) .
وراء استنتاج كهذا منطق يدحض نفسه بنفسه ، وينتهي من حيث بدأ . فهل التطابق الشرط الوحيد لعلاقة الفكر بالواقع ؟ من أي زاوية ينبغي رسم حدود العلاقة بين الداخل والخارج ؟ . وهل سيتيح لنا الانعزال ، بوصفه نقيضا للتبعية ، ارتياد الفرصة المنتظرة لإدراك واقعنا على حقيقته دون توسطات خارجية ، ودون نماذج جاهزة ؟ . وهل سيفضي تقويض أصنام الحداثة وما بعد الحداثة الغربية إلى إنهاء رحلة اغترابنا الطويلة على هامش التاريخ فنفهم أنفسنا كما كانت دائما أو كما ينبغي لها أن تكون ؟ . لو أجبنا بنعم ، فسنقترب من موقف الكتّاب المشار إليهم أعلاه ، لكننا سندخل ، بحكم المؤكد ، البهجة إلى قلب جلال أمين الذي لاحـظ أن قصـة التنوير في بـلادنا " قصة محزنة للغاية "(ص 90) . ففي مقاله النقدي لتيار التنوير العربي أخذ على دعاته نظرتهم التبسيطية لقيم العقل والحرية والتسامح ، وهي النظرة التي جعلتهم يغفلون عن الشروط الثقافية التاريخية النسبية لتحقق تلك القيم . فيذكرهم ، مثلا ، بأن حـرية التعبير ليست حقـّا مطلقا أو مرغوبا فيه دائما ، وأنها لم تتحقق أبدا بصورتها المجردة ، وكذلك بـأن الحكم السلبي المسبق على الدين يسقطهم في التعصب وقسر الرأي الآخر . هذه النسخة المقلدة للتنوير الغربي والتي كان طه حسين من أبرز ممثليها هي ، برأي جلال أمين ، غير ضرورية البتة لفتح الطريق نحو نهضة مجتمعاتنا .
لكن ما المقصود تحديدا بالنهضة ؟ ، يجيب إسماعيل صبري عبدالله أحد مناصريها المعروفين ، بأنها
" هبة مجتمعية تسعى إلى إكساب الحضارة القومية قدرتها على إنتاج المـعارف والمهارات في تعامـل متكافيء مع الحضارات الأخرى " (ص 257 ) . للنهضة ، برأيه ، ضرورة لا يمكن الالتفاف عليها بمجرد الإدعاء بأصلها الأوربي الغربي ، لأنها من حيث الجوهر قوة للانعتاق من انحطاط وتخلف عميقين . ولا أحد بوسعه أن يماري في حصتنا ،كمجتمعات عربية ، من هاتين الظاهرتين المزمنتين . لذلك يدعو الكاتب إلى الشروع بنهضة ثانية من شروطها تطوير وتحديث نظم التعليم ، تنشيط وبرمجة عملية الترجمة ، إطلاق مبادرة المجتمع المدني والديمقراطية . ولكي تتكلل النهضة الثانية بالنجاح عليها أن تجد المناخ السياسي المناسب ، وهو المناخ الذي أعاق النهضة الأولى لما ساده من صراع على السلطة إثر مرحلة الاستقلال . هذا المطلب يكاد أن يكون صدى لملاحظة سابقة وثاقبة لسلامة موسى قال فيها " إن أسوء ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم ، وأن ننتصر على المستغلين ونخضعهم . ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا ونعود إلى دعوة (( عودوا إلى القدماء )) " . (انتهى )

الدستور، الحريات وعودة المثقف

كامل شياع

خلاف الاستبداد تولد الحرية عموماً في مناخ عاصف، وتنمو
بصعوبة وسط نزاعات أهلية، وفقط حين تكون قد بلغت سن
النضج يمكن للمرء أن يرى النعم التي جلبتها

آليكس توكفيل " الديمقراطية في أمريكا"

إطلاق الحكم في بعض نصوص الدستور أو تقييده بالنسبة لبعضها الآخر أمر وارد ومعمول به في مختلف دساتير العالم. فالقول مثلاً أن " لكل فرد حرية الفكر والضمير والعقيدة " يقر حكماً شاملاً وقاطعاً، وكذلك الأمر بالنسبة للقول " القضاء مستقل ولا سلطان عليه لغير القانون" أو " يحظر إنشاء محاكم خاصة أو إستثنائية". أما القول بأن " لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية، بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين، والآداب العامة " فينطوي على تقييد لممارسة الفرد خصوصيته. والأمر ذاته ينطبق على المادة 36 من الدستور العراقي الدائم التي هي موضوع مقالنا هذا. تنص المادة على:
تكفل الدولة، بما لايخل بالنظام العام والآداب:
أولا: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.
ثانياً: حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر.
ثالثاً: حرية الإجتماع والتظاهر السلمي، وتنظم بقانون.

من المؤكد أن موضوع الحريات مثير للجدل وشديد الحساسية لأنه يتعلق بما يمكن اعتباره نقطة سوداء في تاريخ الدولة العراقية الحديثة. فبين إطلاق الحريات في المجالات المشار إليها وبين اشتراط التزامها بـ " النظام العام والآداب" منطقة رمادية تبيح الريبة وتستوجب الحذر.
العبارة أعلاه توحي للذهن الليبرالي مباشرة بأسوأ ما يمكن أن تضطلع به الدولة: التضييق على حريات الأفراد، وبالذات المفكرين والمبدعين منهم، تحت دعوى حماية الصالح العام. الدولة التي ترشح نفسها لتكون قيّمة على الأخلاق العامة، لا تنتج في الواقع إلا القهر والتعسف، هكذا يحاجج من له قناعة ليبرالية، أو من خبر الحياة تحت ظل نظام شمولي.
ليس مردّ الريبة ومرجع الحذر من العبارة الاعتراضية " بما لا يخل بالنظام العام والآداب" في التقييد ذاته، وإنما في ما يمكن أن تترتب عليه إجمالاً من تفسيرات ضيقة أو منظورات محافظة. وهذا الاحتمال أصبح قائماً بالفعل نتيجة التركيب الطائفي للدولة العراقية الحالية الذي يعكس حالة مجتمع ممزق مشحون بالصراعات، يفتقر إلى التقاليد الديمقراطية وتكاد تنحسر فيه روح التضامن والمواطنة. لذلك هناك خشية حقيقية من أن يؤدي تفسير هذه العبارة إلى تقييدات اعتباطية للحريات المنصوص عليها.
يضاف إلى ذلك أن الدولة العراقية عبر تاريخها لم تضع ضمن أولوياتها صيانة الحريات المنصوص عليها في الدساتير التي سنّتها، بل تقليصها أو التجاوز عليها بذرائع شتى فكرية وسياسية. لدينا على هذا الصعيد العديد من الأمثلة الصارخة، حسبنا أن نذكر منها دستور عام 1970 المؤقت والمعدّل الذي نص في مادته السادسة والعشرين على: " يكفل الدستور حرية الرأي والنشر والإجتماع والتظاهر وتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات وفق أغراض الدستور وفي حدود القانون. وتعمل الدولة على توفير الأسباب اللازمة لممارسة هذه الحريات التي تنسجم مع خط الثورة القومي التقدمي".
أهمية هذا النص تنبع من كونه نصاً أيديولوجياً بامتياز، وضع موضع التطبيق والاختبار لمدة طويلة نسبياً تفوق الثلاثين سنة، وبرهن بالفعل على إن إرادة السلطة أقوى من أحكام القانون وأعلى من مصلحة المجتمع. فحريات مثل التعبير عن الرأي والنشر والإجتماع والتظاهر وتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات صادرتها " أغراض الدستور" وأفرغها "خط الثورة القومي التقدمي" من مضامينها.
لذلك يجوز القول بإن تثبيت حريات من هذا النوع والزام الدولة بحمايتها لا يحسب إلا للدستور كنص، أي كصيغة شكلية أو إسمية أو معيارية لإقرار قضية ما عاد تجاهلها ممكناً. أما الإلتزام الفعلي بها فيتوقف على فلسفة الحكم أو أيديولوجيته، ونضج الحياة السياسية عموماً. لقد بقيت دولتنا العراقية عبر ثمانين عاماً من قيامها هشة وقابلة للإختراق إزاء التوظيفات أو " الغزوات" الأيديولوجية للسلطات الحاكمة التي تعاقبت عليها، وتعزز بضعف المكون الديمقراطي في الحركة السياسية لأسباب تاريخية معروفة.
ما نصت عليه المادة 36 من الدستور الدائم تدعونا للتفكير في جملة من القضايا. علينا أولاً حسم موضوع الاعتراف بمبدأ التقييد الذي يعزى إلى قواعد الأخلاق أو الأعراف كما في العبارة الشرطية " بما لا يتعارض مع ..... أو بما لا يخلّ بـ ....الخ " المذكورة في المادة موضوع الحديث، أو يترك أمره إلى المشرع كما في عبارة " ...... وينظم بقانون" الواردة في المادة 10 من دستور 1958 التي تنص على " حرية الإعتقاد والتعبير مضمونة وتنظم بقانون". ولكن سواء تضمن الدستور تقييداً لحريات التعبير والنشر والاجتماع أو لم يتضمن، هناك في جميع دول العالم قيود مفروضة عليها. في بريطانيا هناك قانون يمنع التجديف، وفي فرنسا يعاقب كل من يشكك بالنسخة الرسمية عن محرقة اليهود في معسكرات الاعتقال النازية، وهلم جرا. وهناك أيضاً رقابة، ليست سيئة بالضرورة، على بعض البرامج التلفزيونية التي تروج للعنف والكراهية والإباحية، وكذلك على المواقع الإلكترونية التي تروج لتجارة الجنس، وهناك رقابة، محدودة زمنياً، على تداول المعلومات أو على كتابة التاريخ وغير ذلك.
لا نقصد هنا طبعاً تبرير القيود المفروضة على الحريات، بل تأكيد شرعية المطالبة بها حين يلتف عليها نص الدستور أو تجهز عليها السلطة. لذلك فهي تحتاج إلى أساس أخلاقي (غالباً ما يكون ذا طبيعة خلافية ) كي لا تكون سائبة وعبثية، أو تسقط في نظرة نسبية مسطحة تلغي المقايسة بين حالاتها وتجلياتها.
علينا ثانياً تمحيص أسباب التقييد وغايته. فعلى المستوى الاكثر تجريداً يعبر تقييد الحريات في نص الدستور عن نزاع عميق حول مفاهيم الصالح العام، طبيعة المجتمع والتاريخ، ماهية الإنسان. على هذا المستوى يحيل فهم الحريات وتفسيرها على مجال الغايات البعيدة والمثل الكبيرة التي تتسع إزاءها شقة الخلاف بين الأيديولوجيات والقيم الحضارية. فالماركسية والليبرالية والقومية التي تعارض بعضها البعض في مسائل أساسية، تقف جميعها، بحكم مكونها الوضعي العلماني، على طرف نقيض مع الرؤية الدينية للعالم. وكذلك هو الحال مع قيم حضارات الشرق والغرب ( الغرب الحديث على وجه التحديد) التي تلتقي في مواضع وتفترق في أخرى لدرجة يتخيل البعض أن هناك شرخاً أسطورياً بينهما.
أما على المستوى الملموس فإن السؤال من يقيَد الحرية؟ ولماذا؟ هو سؤال عملي يرتبط بالصراع السياسي المحكوم بعاملي القوة والشرعية. والخشية على الحريات من نص الدستور ذاته تجد ما يسندها اليوم في ما هو قائم خارج النص حيث السياسية السائدة سياسة هوية طائفية وأثنية وولاءات تقليدية. من هذا المنظور، ليست الحريات وحدها في خطر. فمن الممكن أن يؤدي تلازم هذا النص الدستوري وتلك السياسة إلى فرض تفسيرات ضيقة وأحادية الجانب لعلاقة الدين بالدولة، مصادر التشريعات والقوانين، نظام التعليم والمناهج الدراسية، حقوق المرأة، المواطنة، صلاحية المواثيق الدولية حول حقوق الإنسان.
لكن ما دمنا في إطار السياسة فينبغي أن نضع في الحسبان أننا لسنا إزاء معركة أخيرة لو خسرناها لخسرنا كل شيء، ولو كسبناها لكسبنا العالم بأسره ! بل إزاء معركة طويلة الأمد على الحقيقة والعقل والعدالة الإجتماعية والحرية وكرامة الإنسان. لقد مرّ العراق بماض شنيع تسلطت فيه الديكتاتورية فأشاعت الخراب والتخلف. ومن المنحدر التاريخي الذي انتهينا إليه يبدأ صراع مفتوح على المستقبل الذي لا يستوي النظر إليه مع صناعته على الأرض.

أخيراً، أن قيمة الدستور بصيغته الحالية لا تكمن في كماله أو عدم كماله، بل في تهيئته لسياق سياسي وفكري مناسب للصراع على تفسيره والاجتهاد في تعديله وتطويره. التأسيس السليم يقتضي بداية صحيحة لكنه يقتضي بدرجة أكبر خوض صراعات حقيقية حوله. بدون ذلك تكون الفكرة في واد والواقع في واد آخر. وإذا ما تواصلت العملية السياسية، فستنتظر العراق معارك مكشوفة على الحريات وعلى سواها من القضايا الأشكالية. رغم التناقضات الظاهرة التي توحي أحياناً بنهايات قاتمة، لم تتوفر للمثقف العراقي شروط أفضل للظهور كقوة مدنية ذات مشروع تاريخي إنساني. وثمة فرصة فعلية في منطقة عدم التحديد، التي يسمّيها نص الدستور أو يقف دون تسميتها، أدركتها مجموعة غير قليلة من مثقفينا وجسدتها في مبادرات عديدة لتفعيل دور الفكر والثقافة في صناعة روح هذا الزمن. ورصيدهم في ذلك الحريات التي سنحت للمثقف في لحظة " الفوضى" بين سقوط النظام القديم وتبلور نظام جديد. إن عودة الوعي إلى المثقف الذي سلبته السلطة من حرياته، واستسلم لها حين لم تتيسر له منافذ أخرى، يعني خروجه من قوقعة الهموم الذاتية الرومانسية، ويعني أيضاً عودته إلى عالم الحياة.

حال العراقيين بين " أم المعارك " وخاتم الحصارات

مفجع هو حال العراقيين اليوم . فعلى صدورهم تجثم وطأة حربين مدمرتين ، وكابوس نظام مخيف في قسوته ، وآثار خسائر إنسانية غالية . وإذا لم تكن هذه البلايا كافية ، أضيف إليها سلاح الحصار الذي سلبهم النزر اليسير الذي تبقى لهم من نعم الحياة وأسباب الكفاية والطمأنينة . إن تأمل المشهد العراقي الراهن يدفع إلى الاعتقاد بأن حالة الحصار القائمة منذ غزو الكويت عام 1990 أشد إيلاما من الحرب التي أراد لها مخططو السياسة الأمريكية إرجاع العراق إلى العصر ما قبل الصناعي . وقد تحقق لهم ذلك ، سوى إن الحرب كانت عاصفة عاتية استغرقت ستة أسابيع لتبلغ هدفيها ، المعلن وغير المعلن ، المتمثلين بإخراج القوات العراقية من الكويت وتحجيم الآلة العسكرية لنظام وإلحاق تدمير واسع في البنى التحتية للبلاد . أما الحصار الجاري منذ تسع سنوات ، قد تطول إذا ما استمر النظام العراقي والإدارة الأمريكية بالتمسك بمواقفهما " المبدئية " ، فجاء تدريجيا دون استراتيجية محددة ، وسلبيا دون مبالاة بالعواقب الكارثية المتراكمة ، وعشوائيا دون تمييز بين هدف اقتصادي أو سياسي أو إنساني . فكأنه بعد أن طفحت أعراض صدمته المميتة على حياة العراقيين ونفوسهم ، أشبه بمواصلة للحرب بأساليب أخرى . وهذه النقطة تستحق الوقوف عندها قليلا لأنها تضطرنا إلى مراجعة بعض المفاهيم . فإذا كانت منزلة الحرب من السياسة كمنزلة الذروة من الدراما ، يكون الحصار ، في حالة العراق ، ذروة الحرب وتجليها الأقصى . فالحرب ، كما في الدراما المسرحية ، تقترن عادة بلحظة حاسمة لتصاعد الصراع قبل انحلال عقدته وانحدار مساره . إنها آخر الحلول المتاحة للسياسة لتسوية نزاع على أرض أو معتقد أو لفرض امتياز أو سلطة . لهذا ورد في تعريفها الكلاسيكي أنها استمرار للسياسة بأساليب أخرى ، لا يمكن أن تكون في جميع الأحوال إلا عنفية لإبادة الخصم أو شل مقاومته ، ومن ثم لانتزاع تنازل منه عجزت الأساليب السلمية عن انتزاعه . الحرب ، كما تجلت وتتجلى في التاريخ ، هي استمرار " طبيعي " للسياسة حتى وإن استبدلت لغة السلاح بلغة الحوار ، ومنطق القوة بمنطق العقل . وهي كذلك مقدمة لاستئناف السياسة من نقطة أخرى تحددها المعطيات المستجدة نتيجة استخدام العنف المنظم والتدمير المقصود . لا ريب أن الحرب هي من صنف المكروهات التي قد تتحول في يوم ما إلى صنف المحظورات في قاموس العلاقات الدولية وفي العلاقات داخل المجتمع الواحد . ففنونها المعاصرة الحاصلة من اعتمادها على آخر منجزات العلم والتكنولوجيا التي حولتها إلى لعبة نظيفة وإنسانية ، ولكن سادية ، على شاشة الكومبيوتر ،لم تدحض حجج معارضيها التقليديين بل غذتها كاشفة عن همجيتها وبشاعتها المتأصلة بدءا من أشكالها الأكثر تطورا حتى أشكالها الأكثر بدائية . حقا إن حجج معارضي الحرب ، سواء لاعتبارات أخلاقية أو أيديولوجية أو حتى عملية ، تفتقد إلى أساس موضوعي للحكم على الظاهرة بتجرد وشمولية ، لكنها ، في انطلاقها مما ينبغي أن يكون بدل تبريرها لما هو قائم ، تعكس حقيقة التاريخ كصراع حول القيم والمصالح .

رغم هذا ، ليست الحرب هي أسوأ أشكال المجابهة وتسوية النزاعات بدليل ما يحصل في العراق عقب حرب الكويت . فما راكمته سياسة الحصار فاق واقع الحرب بل حوله إلى حدث منسي في سياق انسحاق وتهميش يومي للبشر لا قرار له ولا نهاية . إزاء هذا يمكن المجازفة بمراجعة التعريف السابق للحرب وقلبه ، لرؤيتها كاستمرار للسياسة - سياسة الحصار – بأساليب أخرى . ومهما كان من أمر الاجتهاد في التعريف فإن الحرب وسياسة الحصار ، المضروبة على العراقيين من الداخل والخارج ، تشتركان عمليا في تمديد فترة غياب حسم القضية العراقية ، إذ تعزز إحداهما الأخرى في تعليق تاريخ العراق وإدخاله حلقة مفرغة . ترى كيف يحس العراقيون مصيرهم غير المحسوم ، وكيف يعبرون عنه ؟ . في رسالة وصلت مؤخرا من العراق تقول كاتبتها " إذا كان لكم العذر في إحساسكم بالغربة وانتم في الخارج ، فغربتنا هنا أكثر قسوة وإيلاما ، فإنك لا تتصور أبدا كم تغيرت الأشياء والبشر ، ونحن في دوامة هذه التغيرات نعي الكثير من الحقائق لكننا لا نستطيع أن نفعل شيئا . تماما كشخص أراد أن يمشي مائة كيلومتر ، وعندما وصل الكيلومتر التسعين انتبه أنه يمشي بالاتجاه الخاطيء ، فأصبح في حيرة من أمره لا يستطيع أن يكمل الرحلة ولا يستطيع أن يرجع منها ففضل البقاء في مكانه . وهذا ما حصل ، أسأل نفسي دائما (أحنا ليش صرنا هيجي ؟ ) ما أدري . " حقا لماذا صارت تلازم كل عراقي ، لم يفقد بعد ملكة التفكير ونعمة الذاكرة ، هذه الوحشة الخانقة وهذه الغربة المرعبة ؟ لماذا لا يصدق ذلك المواطن الادعاءات الرسمية بأن بقاء النظام في بغداد هو انتصار للوطن على أعدائه ؟ لماذا لا يشعر العراقيون بأن في نجاة حاكمهم الأوحد نجاتهم الخاصة أفرادا وجماعات ؟ . لماذا لا يمسك المواطن العراقي عن الاعتراف المباشر بأنه ضحية قدر أعمى أوقعه في متاهات مصيرية لا مخرج منها ضمن ركام واقعه وتاريخه ؟ . لعل الأسطورة وحدها تمنح العزاء المطلوب لا التفسير الموضوعي ، وهو عزاء يقوض ويزيح الأسئلة الحارقة لزمن الحصار الذي أرهق الأنفس والأبدان وخذل إنسانية الإنسان في ضحاياه . والمفارقة هنا لا تكمن في العجز عن إدراك الأسباب ، فثمة إجماع على أن أصل المصيبة يرجع إلى العقلية الاستبدادية الثأرية لحاكم بغداد ، وإلى النظرة العدوانية ضيقة الأفق للإدارة الأمريكية . إنها تكمن تحديدا في أن التفسير الموضوعي لا يعين شعبا محاصرا على التلاؤم مع شروطه الحياتية القلقة والشاذة . فأقصى ما يمنحه الفهم لصاحبه هو إمساك الضرورة في صورتها المجردة ، في حين تقتضي المعايشة اليومية تأمين أساسيات مثل المأكل والملبس ، الماء والدواء ، وقبل هذا وبعده الأمن والحرية . وكل هذه يحكمها مبدأ الشحة الذي يتجسد في ظاهرتين : أولا ، انحدار شديد في نوعية حياة العراقيين ، ثانيا ، فقدان الأمل بتغيير الوضع القائم . فنرى ، من جهة ، إن الانحدار المريع في نوعية الحياة قد فاقم من اغتراب العراقيين الذين ما عادوا يصدقون ما آل إليه حالهم ، ولا أدوارهم الجديدة فيه ، كما يتضح من سطور الرسالة أعلاه . لا يرجع الاغتراب إلى أسباب مادية بحتة فقط ، لأننا لو تأملنا الأمر بتعمق أكبر للاحظنا أن العراقيين في العقدين الأخيرين قد فقدوا تدريجيا القدرة على تمييز أنفسهم ومعنى وجودهم في ظل سلطة مغامرة ومكابرة ، مهابة وتافهة . فقد تم سوقهم ، مكرهين غالبا وراغبين أحيانا ، في أيديولوجيتها ومؤسساتها ، ثم دفعوا دون سبب مفهوم في حربين كارثتين . وما أن صحوا منهما حتى اكتشفوا أن الفكرة التي قاتلوا من أجلها كانت زائفة ، وإن التاريخ الذي انتدبوا لصنعه لا ينتمي لهم بشيء إلا بمعنى الخسارة والعبث . بينما لم تخلف في أنفسهم تلك الحيل و"المآثر " التي أكرهتهم عليها ظروف مهمتهم المستحيلة ، إلا الخذلان والعدم . لهذا تراهم لا ينفكون عن استرجاع تاريخهم كرحلة قسرية باتجاه خاطيء لا أفق فيه ولا مخرج منه ، رحلة لا تمنح إمكانية العودة منها ولا مواصلتها . أما من الجهة الأخرى، فقد قادهم فقدان الأمل بالتغيير ، من داخل النظام أو من خارجه ، إلى طرق أبواب البحث عن خلاص فردي بالرحيل من الوطن ، أو بانتظار حفنة دولارات من الأبناء أو الأخوة أو الأصدقاء في الخارج . وهذه حالة جديرة بالتأمل ، لأن الضحايا المباشرين للسياسة يبدون بين الأكثر عزوفا عنها والتفافا على شروطها المكبلة لوجودهم . وليس المقصود هنا توجيه النقد واللوم لأحد ، وإنما رصد حالة عامة لاضمحلال دور السياسة ، وهو اضمحلال مؤقت وقابل للتكرار في التاريخ ، لا لشيء إلا نتيجة الإفراط في السياسة .
وثمة هنا إمكانية مقارنة مثيرة للاستفزاز بين التشبث المحموم للحاكم ونظامه بالبقاء في السلطة وبين التشبث الغريزي للشعب ، أفرادا وجماعات ، بالفوز في معركة البقاء الضارية . فالحاكم يسعى إلى تحويل نجاته في المجابهة إلى أسطورة في التسامي على عوارض الزمن وتحدي الضرورات وتقلبات الأحوال . إنه لا يرى نفسه إلا بمنزلة الناجي الأكبر المشهود له في معارك الحاضر السياسية ، والمبجل في عرف الأقوام القديمة التي يحن إلى تقاليدها . أما شعبه الضحية فلا يسعى إلا لتدارك انسحاقه الوشيك تحت ديكتاتورية الحاجات الحقيقية أو الوهمية ، من خلال معيار تنازلي للحفاظ على البقاء ومواصلة الرحلة دون أحلام ودون أمل . الحاكم يوغل في الإفراط بالحروب والقصور ، بإدامة صوره في كل مكان وبتشييد صروح فخمة تخلد ذكراه إلى أبد الآبدين ، والشعب يأوي نفسه في أنقاض التاريخ .
في زمن " أم المعارك " وخاتم الحصارات ، يبدو أن المسرح لا يتسع لمعادلة الحاكم والمحكوم .

المرابد التي أتخيلها
كامل شياع

ان المربد رئة ثقافية حقيقية في ما هو عليه ، وفي ما ينبغي ان يكون عليه. ويهمني هنا ان أركز على الحكم الثاني لأتخيل المربد منبراً لقراءات شعرية مختارة بعناية ومساقة برؤية نقدية صارمة تميز التجارب والاصدارات والاساليب والعوالم.. حتى لكأنك في كل مربد تزور صالة من صالات متحف الشعر او ورشة من ورشه.
ولأتخيل المربد طاولة لقراءات نقدية تهتدي بمناهج النقد الأدبي الصرف بقدر ما تهتدي كشوفات النقد الثقافي الذي يحيلنا الى السياقات والافتراضات غير المصرح بها في النص.
ولأتخيل المربد مثل كتاب لأثر حيّ نقرؤه كل عام فنديم عبره تفاعلنا مع الجديد الصاعد او القديم المنسي..
ولأتخيل المربد احتفاء بفنان تشيكلي كبير في معرض استعادي يمتد لأسابيع يزوره هواة الفن وطلاب الجامعة والمدارس.
ولأتخيل المربد مسرحاً لعرض درامي فريد من نوعه.. او شريط سينمائي نسترجع صوره كلما تسمرت أعيننا امام الشاشة الفضيّة.
ولأتخيل المربد إسماً لدار نشر بمواصفات فنية لا يبلغها أي كتاب ويطمح للمرور من بوابتها كل كاتب.
وأخيراً ، لأتخيل المربد مزاراً أو بالأحرى مطهّراً تتلاشى فيه غربة المبدع في وطنه ، وتلتقي فيه مسارات الثقافة المقيمة في الوطن وتلك المترحلة في المهاجر.
أهذه الصورة المتخيلة هي كل أفق المرابد التي لم تنجل بعد؟

اليسار ومثال المساواة

إعداد : كامل شياع
أصاب كتاب " اليسار واليمين : دلالة التمييز السياسي بينهما " لمؤلفه نوربرتو بوبيو نجاحا كبيرا عند صدوره عام 1994 ، إذ تصدر بسرعة قائمة الكتب الأكثر مبيعا في إيطاليا . وما كان ذلك بفضل شهرة مؤلفه أستاذ فلسفة القانون والسياسة في جامعة تورينو ، وعضو مجلس الشيوخ الإيطالي الذي كان أول من تفاجأ بمصير كتابه الصغير ، وإنما لأنه (أي الكتاب) جاء في أوانه تماما حين كان التنافس على أشده لإعادة رسم الخريطة السياسية الإيطالية التي عكست توازن القوى الذي ظل سائدا بعد سقوط الفاشية ونهاية الحرب العالمية الثانية . كان مشهد سنوات التسعينات صاخبا ومربكا : الحزب الديمقراطي المسيحي يغرق في فضائحه المزمنة وتحالف اليمين الجديد بقيادة سلفيو برلسكوني يتهيأ للفوز في الانتخابات ، والحزب الشيوعي الإيطالي يغير اسمه وبرنامجه ليتأهل كحزب اشتراكي ديمقراطي ، وظلال سقوط جدار برلين ونهاية الاستقطاب الأيديولوجي تغمر الجميع وتثير مراجعات جذرية وجدل ساخن . في تلك اللحظة تدخل المفكر المخضرم بوبيو ، الذي هو من مواليد 1909 وشغل مقعد أستاذ فلسفة القانون في جامعة تورينو منذ عام 1948 ، ليعيد الاعتبار إلى موضوع اليسار واليمين بحجج كلاسيكية بسيطة ومفحمة . يقول في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه " لقد درست الموضوع بقدر من التجرّد ، ولم آخذ على نفسي مهمة إصدار حكم قيمة بشأنه . لم أسأل نفسي من هو الطرف المصيب ومن هو الطرف المخطيء ، لأنني لا أرى موجبا للخلط بين التقييم التاريخي وبين معتقداتي الشخصية ، رغم أنني لا أخفي إلى أي الطرفين أميل " . الرجل معروف بميله إلى اليسار الذي يقرنه بتبني مبدأ المساواة ، وبانحيازه إلى فكرة أن الشكل العملي والشرعي الوحيد للحكم الديمقراطي هو ذلك القائم على ضمان الحريات الاجتماعية والسياسية والمدنية .
يمكن لدفاع بوبيو عن صحة وديمومة التمييز بين اليسار واليمين أن يفهم كتعبير عن يساريته في لحظة تاريخية اعتراها الغموض والتشوش ، وهو ما عبر عنه بقوله أن اليسار الذي يتخلى عن مبدأ العدالة يسقط لا محالة في لعبة براغماتية لا مباديء لها . ويمكن لهذا الدفاع أيضا أن يفهم كتجل لالتزام بوبيو بقيم الديمقراطية والتنوير في سياق اختل فيه التوازن بين واقع السياسة وغايتها ، وهو ما انعكس في تأكيده بأن اليسار واليمين مفهومان متناقضان ومتلازمان بحيث يؤدي طمس أحدهما إلى طمس الآخر ، الأمر الذي يخّل بفكرة الديمقراطية . في تذكيره بالخط الفاصل بين اليسار واليمين انصبّ سجال بوبيو على الناحية النظرية من أجل تحديد مباديء وثوابت السياسة المعاصرة في إيطاليا والبلدان الغربية إجمالا . واسهم تفسيره ، إلى حد كبير ، في إزالة الالتباس الحاصل بينهما ، أما من الناحية العملية فتظل الصعوبات قائمة عندما يتعلق الأمر مثلا بتقييم المواقف المتعددة لقوى اليسار التي لم يمنعها اتفاقها على مبدأ المساواة والعدالة وعلى الالتزام بالأصول الديمقراطية من الاختلاف على أولويات الممارسة اليومية للصراع . لكن بوبيو لم ينتدب نفسه في هذا الكتاب لتقييم المواقف المتباينة ضمن معسكري اليسار واليمين ، لأن اهتمامه انصرف إلى رسم الخطوط العامة الفاصلة بينهما دون الدخول في التباينات الأيديولوجية داخل كل منهما . يجد القاريء أدناه تلخيصا لأهم أفكار الكتاب .

‎هل يمكن تمييع الحدود بين اليسار واليمين ؟
اليسار واليمين حسب تعريف نوربرتو بوبيو هما مصطلحان متضادان ، شاع تداولهما منذ أكثر من قرنين ( مع الثورة الفرنسية تحديدا ) للإشارة إلى أيديولوجيتين وحركتين اقتسمتا مجالي الممارسة والفكر السياسيين . بصفتهما هذه يتميز المصطلحان بشموليتهما وباستثناء أحدهما للآخر ، بمعنى أنه لا يمكن لأي عقيدة أو حركة أن تكون يسارية ويمنية في أن واحد . تنطوي الثنائية التناقضية لليسار واليمين على عدة استخدامات ، فهي قد تكون ذات طابع وصفي ( لتلخيص موقف طرفي النزاع ) ، أو ذات طابع تقيمي ( للحكم ، سلبا أو إيجابا ، على موقف طرف أو آخر ) أو ذات طابع تاريخي ( للإشارة إلى الانتقال أو المرور من مرحلة إلى أخرى في الحياة السياسية ) . وتنعكس ثنائية اليسار واليمين في الاقتصاد وعلم الاجتماع والقانون والفلسفة بصورة ثنائيات مثل ؛ السوق / التخطيط ، المجتمع / الأمة ، المجال الخاص / المجال العام ، التعالي / التلازم .
ليس التمييز بين اليسار واليمين ، كما يؤكد المؤلف ، هو الوحيد في عالم السياسة لكننا نلاحظه في كل مكان حولنا . مع ذلك ، فحضوره المكثف واستعماله الواسع لم يحل في السنوات الأخيرة دون إخضاعه للمراجعة والتفنيد ، إذ اتهم بخلوّه من المعنى ، وبكونه أشبه بوهم لغوي يأسر الفكر الأيديولوجي دون أن يجد ما يسنده في الواقع الفعلي . يناقش بوبيو أربعة منطلقات لمراجعة التمييز والتشكيك في صحته . أولا ، الأزمة العامة للأيديولوجيات التي منحته حتى الآن شرعية وجوده ومصداقية استخدامه . ردا على ذلك يقول بوبيو أن الأيديولوجيات ، خلاف زعم الزاعمين ، لم تختف ولم تستنفذ دورها ، بل إن شجرتها ما زالت خضراء . وليس القول بنهاية الأيديولوجيا في حقيقته إلا دعوة أيديولوجية مقنّعة . ويضيف أن التمييز بين اليسار واليمين ليس تمييزا أيديولوجيا بحتا ، بالمعنى السلبي للأيديولوجيا كوعي زائف ، لأنه يعبر عن برامج متعارضة حول قضايا ملموسة يشكّل حلها جزءا من الممارسة السياسية اليومية . إن حدود التعارض المقصود لا تقتصر على الأفكار المجردة ، بل تشمل مصالح وقرارات تخص الطريق الأنسب الذي ينبغي للمجتمع السير فيه . مع هذا يعترف بوبيو أن محتوى مواقف اليسار واليمين قد تغير مع الزمن ، وأن الصورة الراهنة لتناقضهما لا تشبه تلك التي كانت قائمة أيام الثورة الفرنسية حين تم اختراع التمييز.
ثانيا ، صعوبات استيعاب التمييز القائم على قطبي اليسار واليمين للتنوع الواسع للقوى والحركات المتواجدة في مجتمع ديمقراطي ، كالمجتمع الغربي المعاصر ، يتصف بدرجة عالية من التعقيد والتعددية . المشكلة هنا تتمثل في ما يمكن أن ينطوي عليه التمييز من تعسف عند حصر المواقف السياسية المختلفة في خانة اليسار أو اليمين دون سواهما . يرد بوبيو على هذا الرأي بأن التمسك بالتمييز بين اليسار واليمين لا يحول دون وجود طيف متصل ومتدرج من المواقف الوسطية التي يلتقي فيها الطرفان . بعبارة أخرى ، لا يمنع القول بثبات مبدأ التمييز بين اليسار واليمين ، الذي سيتناوله بالشرح والتعليل لاحقا ، من حصول تقارب بين الطرفين في المواقف العملية . فإذ استبعد اليسار واليمين نظريا وجود حد ثالث بينهما ( وهو ما يعرف بلغة المنطق باسم الثالث المرفوع ) ، فهناك من الناحية الفعلية إمكانية دائمة لظهور حد ثالث بينهما يتجسد في المواقف الوسطية التي تفرضها الضرورات السياسية . نتيجة لهذا يكون لدينا إلى جانب التمييز الأصلي الذي تلخصه قاعدة " أما _ أو " ، تمييزا فرعيا تلخصه قاعدة " لا هذا ……و لا ذاك " . الاعتراف بالإمكانية الأخيرة لا يبطل صحة القاعدة الأولى وإنما يعززها ، فكما يدل اللون الرمادي على وجود اللونين الأبيض والسود ، يدل الموقف الوسطي على وجود اليسار واليمين اللذين يمكن من خلالهما فقط فهم التنوعات والتداخلات القائمة بينهما .
ثالثا ، فقدان التمييز بين اليسار واليمين لجزء كبير من قدرته على عكس ووصف التطور الدائم المتحقق في المجتمع والمتمثل في بروز قضايا وحركات اجتماعية جديدة لا تدخل لأول وهلة ضمن التصنيف المسبق إلى يسار ويمين . وتقدم حركة الخضر المثال الأبرز في هذا الشأن ، لأن أفكارها عن البيئة تتقاطع مع الأفكار المتصارعة لجميع الاتجاهات السياسية . تعليقا على هذه الحجة يشير بوبيو إلى إن إثارة قضية البيئة لم تؤد إلى زعزعة الانقسام بين اليسار واليمين وتحويله إلى معيار عفا عليه الزمن ، وإنما العكس هو الصحيح . فبدلا من إزاحة الانقسام وتجاوزه أصبحت حركات البيئة نفسها حقلا للصراع الحاد بين قطبيه اللذين برهنا على ثباتهما وديمومتهما .
رابعا ، أن مصطلحي اليمين واليسار أصبحا مرفوضين لأنهما فقدا جدواهما من الناحية العملية ضمن الدول الديمقراطية الغربية ، ويتوقف الكتاب عند إيطاليا التسعينات كنموذج ، حيث تشابهت فيها برامج الأحزاب وشعاراتها الانتخابية ووعودها الاستهلاكية للناخبين . لا يملك بوبيو هنا سوى الاعتراف بأن جوانب الاختلاف بين اليسار واليمين في وضع كهذا تتضاءل اكثر وأكثر ، وأن اليسار ، تحديدا ، صار يتبنى أفكار اليمين من أجل أن يجدد نفسه حتى لو أدى به ذلك إلى طمس هويته السياسية . لكنه يضيف أيضا أن هذا الوصف ، على ما فيه من صحة ، لا يتطابق تماما مع الواقع . فالأزمة التي تواجه حاليا التمييز بين اليسار واليمين ضمن سياق البلدان الرأسمالية هي أزمة مؤقتة ، سيما إذا نظرنا إليها على النطاق العالمي . فالتفاوت الشاسع بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة يفرض التفكير بمنطق اليسار واليمين كمرادفين للمساواة وعدم المساواة ، مثلما يفرض تقدير عواقبه المهددة للبلدان الغربية التي تتمتع بحالة من الرخاء النسبي .

استكمالا للمناقشة أعلاه يثير المؤلف ملاحظتين يستحقان التوقف عندهما ؛ أولهما أن اليسار واليمين لم يمثلا على مر التاريخ قوتين متساويتين في حجمهما وتأثيرهما ، وإن تفاوت أدوارهما لا ينعكس ، بالضرورة ، سلبا على علاقة التناقض الجذرية التي تربطهما . بعد سقوط الفاشية وصعود نجم الأفكار اليسارية ، فقد اليمين الكثير من مبررات وجوده لأن الفاشية كانت محسوبة عليه ، فظهر من بين منظريه من يدعو إلى نبذ التمييز التقليدي بين اليسار واليمين ، والبحث عن بداية جديدة للصراع السياسي . في حقيقة الأمر ، لم تظهر تلك الدعوات إلا للتمويه على ضعف اليمين مقابل هيمنة اليسار على مسرح الأحداث . نفس المعادلة تتكرر في أيامنا هذه ، ولكن بصورة مقلوبة . فبعد سقوط النظام في الاتحاد السوفيتي وبلدان أوربا الشرقية ، جاء دور اليساريين للتنصل من التمييز بين اليسار واليمين كدليل على ضعف موقفهم الذي عبر عن نفسه ، خلال السنوات الأخيرة ، في عدد هائل من الندوات والمناظرات حول " تعريف اليسار " و " أزمة اليسار " و " مأزق اليسار " و " موت اليسار " ..ألخ . يلخص بوبيو موقفه هنا بأن سقوط النظام السوفييتي لم يجلب نهاية اليسار ، لكن ببساطة نهاية حركة يسارية في فترة تاريخية محددة .
تتعلق الملاحظة الثانية بتعدد وتنوع مواقف اليسار واليمين بين الاعتدال والتطرف ، وبين الاقتراب من الوسط والابتعاد عنه . يؤكد بوبيو في هذا الصدد أن التمييز لا يشمل فقط مواقف القوى التي تتمركز في أقصى اليمين و أقصى اليسار ، وإنما أيضا مواقف القوى التي تقترب ، بهذه الدرجة أو تلك ، من الوسط ضمن المعادلات السياسية المألوفة في النظم الديمقراطية في أوربا الغربية . هذا الاتجاه الوسطي ، المتمثل بوسط اليسار ووسط اليمين ، لا يشبه اليسار الخالص أو اليمين الخالص ، إلا أنه يستمد وجوده من وجود قطبي التناقض المذكورين ويبقى عمليا ضمن حدود علاقتهما رغم محاولته إستبعادهما . غير أن هناك أيضا اتجاه وسطي محمول على طموح اكبر يطلق على نفسه الطريق الثالث ، من ابرز دعاته في الوقت الراهن توني بلير رئيس حزب العمال البريطاني الحاكم . يدّعي هذا الاتجاه قدرته على دمج اليسار واليمين في تركيبة جدلية أعلى تتجاوزهما ، لكن فكرته النظرية بالاستقلال عن الانقسام إلى معسكرات متصارعة ، لا تؤهله في الممارسة العملية للخروج من الوسطية التقليدية . إن الطريق الثالث ، كما يلاحظ بوبيو ، هو من علامات أزمة اليسار الذي يحاول أن يحافظ على بعض مسلماته مع مزجها بعناصر محيَّـدة من الموقف المناقض له . ويضيف إن أي شكل من الفكر التركيبي محكوم بالتناقض لأنه يحاول أن يقرن بين نمطين متناقضين من الأفكار التي برهنت دائما على عدم قابليتها للتوفيق .

معيار التمييز بين اليسار واليمين
هنا نبلغ الفكرة الرئيسية التي تفسر إصرار بوبيو على التمسك بالتمييز بين اليسار واليمين للرد على طروحات الرافضين له ، إلا وهي فكرة المساواة . فثنائية اليسار واليمين تناظر ثنائية المساواة وعدم المساواة ، لكنها ليست ثنائية ميتافيزيقية بل متشكلة تاريخيا . إن الاعتراف بتغير مضمونها ، الذي تتحكم فيه شروط نسبية ، لا يحولها إلى صيغة شكلية سائبة تتسع لما شئنا من المواقف والنظرات المتعارضة التي يجتهد مفكرو السنوات الأخيرة في اختراعها . ترتبط المساواة ، التي تشكل مع الحرية والسلام أهم القيم الإنسانية ، بثلاثة متغيرات يحددها بوبيو كالتالي ؛ مساواة بين من ؟ حول ماذا ؟ وعلى أي أساس ؟ . فمن ناحية المستفيدين من المساواة وموضوعها يمكن إجراء مفاضلات مثل ؛ أن منح حق التصويت العام للنساء والرجال أكثر مساواتية من منحه للرجال فقط ، والديمقراطية الاجتماعية أكثر مساواتية من الديمقراطية الليبرالية ، ومبدأ لكل حسب حاجته أكثر مساواتية من مبدأ لكل حسب مرتبته . أما بالنسبة لمعيار المساواة فتشترطه الحالات الملموسة حيث تمنح الأولوية للحاجة على حساب الاستحقاق أو للعمل على حساب المرتبة أو العمر ، أو بالعكس . الدعوة للمساواة هي التي تميز بوضوح وحسم اليسار عن اليمين ، إذ لا يمكن لليسار أن يكون يسارا ويهجر المطالبة بالمساواة بين البشر . لكن القول أن اليسار يدعو إلى المساواة لا يعني أن جميع الأفراد متساوين في كل شيء ، فهناك فروق فعلية بينهم ترجع لأسباب طبيعية أو لأسباب يكون الأفراد أنفسهم مسؤولين عنها . ما تهدف إليه تحديدا سياسة اليسار هو تبني وتشجيع كل ما يمكِّن الناس غير المتساوين لأن يكونوا أكثر تساوياً في الفرص والحقوق ، أي أنها لا تهدف إلى إقامة مجتمع مساواتي مسطّح مكانه في عالم طوباوي خيالي . عند تأمله للنتائج المعكوسة التي انتهت إليها تجارب التطبيق المتعسف للمثل الطوباوية على الواقع ، ينوه بوبيو بأن المدن الفاضلة التي اقترحها الفلاسفة لم تكن أبدا ذات غايات عملية مباشرة .

ينبغي إذن ، برأيه ، الانطلاق من كون الناس متساوين وغير متساوين في وقت واحد . فهم متساوون عند النظر إليهم من زاوية النوع الإنساني لكنهم مختلفون كأفراد ( الحرية هي أقوى مؤشر لهذا الاختلاف ) . وكل ما يهدف إليه اليسار الذي يدعو إلى المساواة دون أن يكون مساواتياً ، هو تقليص عدم المساواة ، فيكون بذلك أكثر ميلا إلى العدالة من اليمين . يرسي اليسار فكرته عن المساواة على الاعتقاد بان أغلب أشكال عدم المساواة ذات أصل اجتماعي ، ولذلك يمكن تسويتها أو إزالتها . في المقابل ، يرسي اليمين فكرته عن عدم المساواة على الاعتقاد بأن الاختلافات بين الأفراد ذات أصل طبيعي ، لذلك لا يمكن تسويتها أو إزالتها . المثال الكلاسيكي لفكرة المساواة طرحه جان جاك روسو في مقالته المشهورة " حول أصل التفاوت بين الناس " وفحواه أن الناس يولدون متساوين ، لكنهم يصبحون غير متساوين بفعل المجتمع . من حيث الجوهر، ليست عدم المساواة منتج طبيعي بل اصطناعي ، لهذا يميل اليسار إلى عدم القبول بها عازياً إياها إلى قسوة المجتمع المتضافرة مع قسوة الطبيعة ، ومراهنا على قدرة الإنسان على تصحيحها في الحالتين . أما مثال فكرة عدم المساواة فلخصه فريدريك نيتشة الذي اعتبر الناس بطبيعتهم غير متساوين ، وكل محاولة لمساواتهم هي محاولة اصطناعية تنطلق من أخلاق العبودية والقطيع التي تجد أفضل تجسيداتها في المسيحية . بالإضافة إلى نيتشة تتجسد فكرة عدم المساواة الأصلية بين الناس في الأيديولوجية الليبرالية التي تضع الحرية الفردية ، خاصة في مجال المبادرة الاقتصادية ، فوق أي اعتبار آخر .
الاعتراف بان البشر متساوون وغير متساوين في آن واحد ، يمثل ، بنظر بوبيو ، المقدمة المشتركة التي ينطلق منها دعاة اليسار واليمين لكن نحو نهايات متعارضة . فلتشييد مجتمعهم الفاضل يولي اليساريون أهمية أكبر لمبدأ المساواة والعدالة ؛ في حين يولي اليمينيون أهمية أكبر لمبدأ الحرية والتفاوت . المسألة هنا هي مسالة مفاضلة واختيار بين مبدأين ، شرط أحدهما هو الحياة الاجتماعية وشرط الآخر هو الحياة الشخصية . ترجيح أحدهما يؤدي لا محالة إلى فرض قيود على الأخر ، فتوسيع المجال العام من منطلقات مساواتية سيحدّ من حرية الاختيار التي تنتمي إلى المجال الخاص ، وفرض المساواة سينتج عنه تقييد جزء من الحرية التي هي عمليا ملك الأغنياء . مع هذا فليس كل إجراء مساواتي يتناقض مع الحرية بدليل أن منح النساء حق التصويت لا يقلص حق الرجال فيه ، وأن الاعتراف بحق المهاجر لا يؤثر على حق المواطن الأصلي . ويلاحظ بوبيو أن الربط بين عدم المساواة والملكية الخاصة لم يخترعه اشتراكيو وشيوعيو العصر الحديث ، بل سبقهم إليه أغلب ، أن لم يكن جميع ، المفكرين الطوباويين من توماس مور وتوماس مونزر وحتى فورييه وسان سيمون . ما يحسب للحركات الاشتراكية الحديثة نضالها من أجل الاعتراف بالحقوق الاجتماعية بموازاة الحقوق الليبرالية ، الأمر الذي تحقق لأول مرة في دساتير الدول الغربية بعد الحرب العالمية الأولى . وكان مطلب المساواة ، الذي هو حجر الزاوية في مفهوم اليسار ، وراء انتزاع الحقوق الاجتماعية الأساسية مثل حق التعليم والعمل والرعاية الصحية . ولم ينته الأمر عند هذا الحد ، فقضية عدم المساواة بين الناس في كل بلد على حدة وعلى مستوى العالم ككل ما زالت تطرح نفسها كمشكلة جدية ، يظهر بعدها المأساوي في العالم الثالث خصوصا . لا يمكن ، كما يقول بوبيو ، أن نغمض أعيننا عن رؤية ثلثي أو أربعة أخماس أو تسعة أعشار سكان العالم يعيشون في حالة فقر . لهذا ما زال تحدي الشيوعية قائما رغم سقوط نظمها ، لأن جوهر الصراع الذي يدور حول العدالة الاجتماعية أعمق بكثير من جولات التاريخ والسياسة . في مواجهة هذه الحقيقة ، يخلص بوبيو إلى أن مثال المساواة هو النجم القطبي الذي يهدي اليسار في مهمته التي لم ينجزها بعد ، ويكاد لم يباشر بها.
**************************************************************************

حين نكون في بغداد
إلى إلياس
كامل شياع
أكتب إليك من البيت المجاور لبيتك الصغير. فأنا، منذ ثلاثين شهراً، أختفي هناك... هرباً من البرد والمطر، واحتجاباً عن عيون أهل لويفن الذين ملّوا رؤية الأجانب بينهم.
من ذلك البيت أخرج من وقت لآخر لألقاك حاملاً حقائب السفر، متظاهراً بالقدوم من بغداد. وما هي إلا أيام حتى يحين موعد سفري، فيرشح في النفس حزن ثقيل، وأختفي من جديد. إنها لعبة مشوّقة، جربتها وأنت تلعب مع أقرانك لعبة الإستغماية. أي قلق يحمل الإختباء؟ أي حماس يثير إعلان الظهور؟ هذه هي لعبتي المتواصلة معك منذ أن أوهمتك بأنني عائد إلى بغداد. لكنها ليست اللعبة الوحيدة بيننا، فأثناء الإختفاء لا أكف عن مراقبتك من ثقب صغير في الجدار. كل مرة أكلمك بالهاتف، تتسلل نظراتي إليك من ذلك الثقب، فأراك وأنت تسرد لي أخبار يومك، أو تستمع إلى حكايات الجنون في بغداد.
في واقع الأمر، إن المسافة بيننا قصيرة لاتستحق عناء القياس. خمسة أمتار أو أربعة آلاف كيلومتر هي في النهاية أرقام لا معنى لها خارج عالم الحساب. وبغداد ولوفان هما أسمان على الخريطة لا أكثر. ولأن لكل إسم دلالة، دعني أخبرك عن إسم بغداد المشتق، حسب رأي بعض المؤرخين، من الفارسية وتعني البستان.... وهي عرفت في يوم من الأيام بدار السلام. غير إنها اليوم، للأسف، دار حرب كما تعلم. الصور الآتية منها تملأ الشاشات بمشاهد الخراب والرعب ولا تدع مجالاً للشك بأن الحياة فيها واقفة على كف عفريت. كل يوم من أيامها نذير بالنهاية... وكل حدث فيها إمتحان لطاقة التحمّل القصوى. لعلك تستطيع أن تتخيل حالها من الصور والأخبار المفزعة المبثوثة عنها، إلا أن بغداد التي ألزمت نفسي بأن أكتب لك عنها هي عالم آخر. إنها المكان الذي إسترحت فيه من عناء السفر الطويل والغربة الشاقة، إنها سنوات الطفولة والشباب التي رحت أقرأ بقاياها في الوجوه والأماكن والعادات، إنها كيمياء من أواصر مصيرية لا أملك مفاتيح حلها.
من وحي بغداد المطمورة خلف ركام صور الدم والحرائق، اوصيك:
أن تغادر البيت جذلاً دون خشية مما ستجلبه بقية النهار.. تذكّر دائماً أن يومك العادي محروس بسلام نادر،
أن تستنشق الهواء بعمق خاصة عندما تخترق حديقة المدينة أو تمر بجوار مشتل الزهور.... وحين تدخله توقف عند الأجمل والأغرب بين الزهور، إحفظ إسمه باللاتينية، ولامس أوراق النباتات الإستوائية.... واقطع غصناً مزهراً في طريق عودتك إلى البيت،
أن تتملّى السماء حين تكسوها الغيوم ... وحين تتلألأ فيها النجوم.... أرقص تحت مطر الصيف! وأسأل القمر عن سرّ الليل!
أن تدعو أول قطة تراها في الشارع، لتربت على رأسها ... قبل أن تمضي في سبيلك،
أن تتجول طويلاً في شوارع لويفن الصغيرة... وتذهب حتى نهاياتها لتتأكد أن لا حواجز كونكريتية هناك، ولا أسلاك شائكة، ولا نقاط تفتيش ولا حرساً متأهبين لإطلاق النار...
أن تخرج حين تشاء، لتتمشى أو تلعب أو تقصد دار السينما،
ألا ترى الدم في الشوارع.... ولا بقايا جثث محروقة وسيارات محطمة، ولا ندوب الحروب الصغيرة على واجهات العمارات السكنية،
ألا تتخيل ما حصل لركاب السيارة التي أمامك وقد ثقبها الرصاص، وتهشم زجاجها... وترك الموت العاصف أبوابها مفتوحة على مصراعيها،
ألا تسمع رجّة إنفجارت قريبة، ولا يلازمك إحساس خطر وشيك،
ألا ينبهك دوي الإنفجارات البعيدة إلى حياة عبثية تفتك بأبنائها المتعبين،
ألا يطاردك شبح الخوف مما هو مرئي أو غير مرئي، وتختبئ من رصاصة طائشة فتبتعد عن النافذة، وتهجر الحديقة والشرفة.
ألا تحلم بإطلاق آخر رصاصة، وإنفجار آخر عبوة ناسفة، وغياب آخر إنتحاري،
أن تجلس عند المساء في غرفتك الهادئة، وتستمع إلى الموسيقى التي تحب. سوف لا يزعجك ضجيج طائرات مروحية دانية، ولا ترى الحمامات تفرّ مذعورة من بين أغصان الشجرة،
ألا يداهمك إنقطاع التيار الكهربائي ليحرمك من متعة القراءة، أو مشاهدة التلفزيون أو اللعب بالحاسوب، ولا تضطر إلى شرب قهوتك في الظلام، أو كتابة رسالة على ضوء الفانوس، أو تأجيل قراءة الجريدة ليوم آخر،
ألا تأخذك الريبة بجارك... ولا تخشى نظرات المارة. فليس هناك من يرصد حركاتك لقاء دولارات قليلة من عصابة تصطاد الرهائن فتقايضهم أو تنحرهم،
ألا ترتدي من الملابس إلا أجملها، ولا تشتري من الشموع إلا ما يضوع منه شذى العطور.
....................
....................
بين جسر باب المعظم وجسر الشهداء تمتد على جانب الرصافة بغداد القديمة. تحت ظلالها الأنيسة سنجلس يوماً لنسمع دقات ساعة القشلة، ونراقب اللقالق تحرس أعشاشها، ونتحسس حجارة مبانيها الصفراء. وتحت وهج الشمس البيضاء سنخطو نحو دجلة المتعب، المتأجج ابداً...... حينها سندرك سرّ بغداد دون صورة أو خبر....

سؤال النهضة......سؤال التحولات
كامل شياع

حين نفترض أن مصير مجتمعنا واقع لا محالة بين خياري السلفية الدينية النازعة إلى النظر نحو الماضي بعين الإجلال والتقديس، والإملاءات الخارجية التي تفرض قيماً حديثة بأشكال هجينة وطرق براغماتية، يغدو من المشكوك فيه أن ينطوي سؤال النهضة على معنى عملي أو نظري. فمن المعروف أن الحديث عن النهضة يستمد مصداقيته من مراجعة مكونات الثقافة أو الحضارة ذاتها لتشكيل رؤية جديدة للعالم. هكذا كان الأمر مع النهضة الأوربية التي فتحت الطريق لإحلال علوم الإنسان محل علوم الدين، والتجربة الحية محل التفكير التأملي، وتفسير الطبيعة محل تأويل النص. فيسرت بذلك العودة على المنابع الإنسانية الأولى لتجاوز التقاليد السكولائية التي سادت طيلة فترة العصور الوسطى.
ومن المعروف أيضاً أن دعاة النهضة العرب والمسلمين ، في نهايات القرن التاسع عشر، قد أدركوا الحاجة إلى تغيير البنى الفكرية ومراجعة فهم التراث ونقد المؤسسات التقليدية. وكان سؤال النهضة معنياً بتصور هوية جديدة للعالم العربي والإسلامي في زمن بانت فيه فداحة التخلف والعجز الحضاري. وكانت القضايا التي أثارها دعاة النهضة على إختلاف مشاربهم الفكرية مدفوعة بدافع الإصلاح والتحديث، إذ حاججوا في أمر العلاقة بين الدين والعلمانية، التحرر الفكري، الموقف من الاستبداد السياسي، مساواة المرأة بالرجل، النظرة إلى الغرب الحديثة.
بعد مرور قرن من الزمن نجد أن قسماً من هذه القضايا قد تجسّد في الواقع أو استقر في نفوس وعقول أبناء هذه الأمة، وظل القسم الآخر معلقاً في فضاء الممكنات المجردة التي تنتظر أزمنة أخرى كي تنبت في تربتنا الثقافية. في الحالتين لم يتحول خطاب النهضة إلى خطاب سائد في حياتنا. ولذلك فإن إعادة طرحه اليوم تضمر إعترافاً بضياع فرصة تاريخية، وتحسساً لحالة إغتراب جماعي عن زمن يصنعه الآخر لنا لنتداوله في طور من الاستسهال واليسر تارة، والممانعة والعسر تارة أخرى.
أن أفكار النهضة عندنا لم تتبلور بعد في مشروع تاريخي متماسك ومتنام. فقد اعترضتها نزعات محافظة برهنت على قدرة غير عادية على البقاء، وانسحبت إزاء المد الأيديولوجي الجارف، القومي واليساري. غير إن تعثرها أو انسحابها لا يعني أنها ذهبت هباء. فهي من جهة، وضعت النزعات المحافظة أمام تحديات جدية لم تزل قائمة، أما، من الجهة الثانية، فقد أودعت في الأيديولوجيات العلمانية قدراً غير قليل من مفرداتها التي تجسدت في سياسات إصلاح وتغيير ليبرالية الطابع أو يسارية الهوى.
إن تأمل مصير فكر النهضة بعد ما يزيد على قرن من الزمن على ظهوره، يمكن ان يضعنا أمام استنتاجين متعارضين حول ثقافتنا: فإما أن نعتبرها ذات جوهر ميتافيزيقي يقاوم ضرورات التطور والتحديث ويجعل منها نظاماً من العقلانية المكتفية بذاتها والمحصنة بخصوصية مانعة للتأثيرات الوافدة؛ أو أن نعتبرها في طور صيرورة وتراكم غير منظور يتحقق عبر الهزائم السياسية، والانكسارات الأيديولوجية، والصراعات التناحرية، والحلول العملية والتسويات التلفيقية. صورة الثقافة في الحالة الأولى تكون سكونية لأنها معطاة لمرة واحدة وإلى الأبد، بينما تكون في الحالة الثانية في طور حراك وتشكّل تدريجي لا يتوقف عند حدّ معلوم أو غاية نهائية. ورغم أن الصورة الأخيرة، برأينا، أقرب إلى تمثيل واقع ثقافتنا في تحولاتها وتناقضاتها ضمن فضائها الفعلي الذي هو سيرورة التاريخ المعقدة والمتعرجة، فإنها لم تتعزز بعد بنقلات جذرية ناتجة عن تواصل وتراكم معرفيين. إن هذه الظاهرة تؤكد أن زمن الثقافة طويل وعسير، وأنه ليست هناك صيغة جاهزة لما ينبغي أن تكون عليه.
لذلك فمن المهم أن لا نتوقع من الفكر النهضوي ان يكون بديلاً عن التاريخ الفعلي الذي تصنعه شروط مادية وضرورات عملية إضافة لوعي الإنسان وإرادته، أي أن لا نفصل الفكرة عن شروطها المادية التي تسمح لها بأن تهيمن وتسود، أو أن تتراجع وتنكفئ.
كذلك من المهم أن ننأى بخطاب النهضة عن الطموح السياسي للفكر القومي. إن واحدة من المآخذ على هذ الفكر إختزاله لجوانب التمايز التاريخي بين المجتمعات العربية. إذ إنه حين قفز على الاختلافات الوطنية والخصوصيات الجغرافية والثقافية، جعل الواقع فكرة والفكرة واقعاً، فألغى بمصادرة مزدوجة أوجه تباينهما وأسباب تفاعلهما. ليس هناك معنى إذن في الحديث عن نهضة كان يمكن أن تخرج العرب من مأزقهم الكبير إزاء صدمة الحداثة الوافدة، إلا مع إدراك أن تلك الأمة الممتدة من المحيط إلى الخليج هي معطى أسمي وليس حقيقة فعلية، وأنها إمكانية وليس واقعاً عينياً.
بعبارة أخرى، إن مصداقية الخطاب النهضوي لا تستند على برنامج قومي رومانسي للتغيير وإنما على توفر شروط فعلية إجتماعية، إقتصادية ومعرفية. وهذه الشروط هي التي تفسر الدور التاريخي لهذا الخطاب. أما حين نبحث للنهضة عن بداية نسميها عقلانية ونريدها أن تكون محصنة من فعل العوامل الاجتماعية أو الثقافية، أي من تدخل القوى الحيَة أو الموروثة، فإن حالنا يكون كحال الباحث عن نقطة افتراضية خارج السياق من أجل تغيير مساره. وهذا ضرب من الخيال الطوباوي الذي ينجذب إلى الغايات المثلى ويغفل الأسباب والوسائل .
لهذا لا أتفق مع العبارة الواردة في رسالة جريدة "الأديب" والداعية إلى " فك أسار العقل من المهيمنات الدينية والأيديولوجية والاجتماعية" لأننا في الواقع نمر بصراع بين نوعين من العقلانية: واحدة تأويلية تابعة لسياق ثقافي محدّد ومتشكلة عبره كمنظومة مفاهيم ورؤية إلى العالم، والأخرى فلسفية تقول بعقل كلي وحقيقة موضوعية عابرة للاختلافات الثقافية. وعن هذين المستويين من العقلانية يمكن أن ينشأ منظوران مختلفان للنهضة.
وأخيراً، مع أهمية وجود فكرة موجِّهة أو هادية لمجتمعاتنا وثقافاتنا المعاصرة، فليس من الصواب حصر احتمالات هذه الفكرة في نزوع مطلق نحو الماضي أو نحو المستقبل. علينا أن ننظر إلى عملية التأهيل والتحديد المتبادل بين الماضي والمستقبل، أي إلى الجدل القائم بين النزوعين والذي هو ناشب في جسد ثقافتنا. وعلينا أن ندرك أنه ليس هناك حامل تاريخي واحد لتلك الفكرة الموجِّهة التي يمكن أن نسميها النهضة، بل هي حصيلة صراع أفكار وقوى عديدة، وتنازع مؤثرات داخلية وخارجية متباينة. ولدينا اليوم في هذا المعترك فاعلون كثيرون من مختلف المشارب والاتجاهات.
فإن ظهر في أفقنا، نتيجة لهذا الصراع والتنازع، مشروع نهضوي جديد فسيكون في خطوطه العامة ذا رؤية موضوعية للتاريخ، نزعة إنسانية غالبة، عقلانية نقدية، منطق عملي يحسن الجمع بين الوسائل والغايات، وإجماع سياسي ديمقراطي.
أترانا نستبق التاريخ ونحن نتخيل الأرضية التي يمكن أن تبدأ منها نهضة ثانية أو تستأنف عليها خطى رواد النهضة الأولى؟

_________________

عودة إلى الديمقراطية والمجتمع المدني
كامل شياع
لا يمكن للحديث عن الديمقراطية والمجتمع المدني أن يتفادى التكرار حينما يتعلق الأمر بتحديد معانيهما وعرض أصولهما ونماذجهما القائمة. هذان المفهومان، المترابطان والمعتمدان على بعضهما، يشكّلان فيما بينهما وحدة عضوية مميزة للمجتمع الغربي الحديث وللفكر السياسي المعبر عنه والمؤسس له.
تطرح هذه الورقة بعض الأسئلة المرتبطة بالنقاش النظري حول المفهومين المذكورين، وحول ممكنات تطبيقهما خارج سياقهما التاريخي والثقافي التقليدي المتمثل بالعالم الغربي الحديث. من المعروف أن النقاش عندنا حول الديمقراطية، أو ما شابهها من نظام يحتكم لإرادة الشعب لا إلى إرادة الحاكم المطلق، قديم يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر. ولعل عبد الرحمن الكواكبي في كتابه " طبائع الاستبداد " أول من تصدى للموضوع حين أشار إلى أن " الحكومة، من أي نوع كانت، لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والمحاسبة، التي لا تسامح فيها "(ص 32). ولئن اعتبر الكواكبي مشكلة الحكم من أقدم المشاكل في تاريخ البشرية، فإنه لاحظ أن الغرب قد قرر لها قواعد أساسية " تضافر عليها العقل والتجريب، وحصحص فيها الحق اليقين فصارت تعد من المقررات الإجماعية عند الأمم المترقية" (ص 134) . حملت أفكار الكواكبي ومن سبقه من المصلحين رجع ما سمي بصدمة الحداثة التي باغتت مجتمعاتنا العربية والإسلامية وأوقفتها إزاء مواجهات صعبة وخيارات مؤلمة نفسياً ومعقدة عملياً. أما المواجهات فيجملها التحدي الغربي الذي ما أنفك يعلن عن نفسه منذ القرن التاسع عشر ، ولعله سيستمر إلى أجل غير معلوم طالما امتلك الغرب القوة والمعرفة والاستقرار السياسي الذي صار ينعم به ، بشكل استثنائي، منذ نيّف وخمسين سنة. لقد ظل التحدي قائماً رغم تغير الدور التاريخي للغرب من صاحب رسالة حضارية إلى مستعمر غاز ومن ثم إلى مركز يتحكم، عن بُعد، بمصير أطراف العالم اقتصادياً وعلمياً كما يحصل حالياً في سياق عملية العولمة وسياساتها. وظل التحدي قائماً حتى بعد أن صار الغرب أكثر تشككاً بشمولية مفاهيمه عن الحداثة والتقدم التاريخي والقيم الثقافية والأخلاقية، وأكثر حذراً في تصدير أفكاره وطريقة حياته التي نفذت فعلياً إلى مجتمعات العالم دون استثناء لتفرض نفسها من الداخل كجزء أصيل من حاجات التطور الواقعية فيها. ولا نقصد هنا الديمقراطية البرلمانية والحريات السياسية فقط، وإنما نشاطات الجماعات المنظمة حول مطالب حقوق الإنسان ومساواة المرأة بالرجل والحريات الجنسية وحماية الطفولة والدفاع عن البيئة وسواها من القضايا. ونضيف إلى ذلك الإقبال على التسهيلات التي تمنحها ثورة الاتصالات والمعلومات، وشيوع النزعات الاستهلاكية للمنتجات المادية والثقافية. وظل التحدي الغربي قائماً حتى مع انضغاط بعدي الزمان والمكان وتقارب أطراف العالم الذي تحول حقاً إلى قرية صغيرة، وتحقق تجانس متزايد في أنماط الحياة والاستهلاك، واتساع حدود الهجانة الثقافية المميزة للحقبة ما بعد الحداثية المعاصرة، وتفتت المسلمات الكلاسيكية للمركزية الغربية. كل هذا يبرر الأخذ بثنائية ما عادت متداولة كثيراً في أيامنا، هي ثنائية التقدم والتأخر عند الحديث عن التفاوت البنيوي بين مراكز العالم وأطرافه، ذلك أن التفاوت قد تضاعف عملياً مع زعزعة حدود الدولة الوطنية، والعولمة الاقتصادية وتزايد الهجرة إلى المراكز الغنية.
وأما الخيارات فتجلت في طيف من الاستجابات التي نحا بعضها منحى إصلاحياً رفض من الأساس إمكانية التحديث على الطريقة الغربية - التي هي غير ممكنة عملياً - وحاول أن يوفق بين تقاليد الماضي وضرورات التحديث، جامعاً بين إعادة تفسير التراث والانفتاح بصورة انتقائية على المستجدات المادية والثقافية. ونحا بعضها الآخر منحى جذرياً افترض وحدة التاريخ وحتمية التطور باتجاه خطي صاعد، ونظر إلى الهوية الحضارية كنتيجة للتغيير وليس مقدمة له. من المهم أن نشير هنا إلى أن هذه الاستجابات لم تثمر حتى الآن عن بدائل مقبولة وراسخة على جميع المستويات، تطمئن الشعور العام في مجتمعاتنا بعسر الحاضر وغموض المستقبل. إنها لم تتمكن إجمالاً من التفاعل الإيجابي مع الفرص التاريخية الموجودة دائماً بتواز مع وجود الضرورات والتحديات الفكرية والعلمية والسياسية.
لنعرض أولاً لمحة عن مفهومي الديمقراطية والمجتمع المدني، ونبدأ بالأولى التي نستدل عليها من غيابها عن حياتنا في ماضيها وحاضرها. ذلك أن نقيضها ظل هو السائد و " الصالح" لكل الأزمان بهيئة حاكم مستبد أو دولة متسلطة أو علاقات اجتماعية قائمة على التراتبية والأبوية، الأمر الذي ساعد على ترويج التعميم القائل بأن الديمقراطية حكر على المجتمعات الغربية المسيحية دون سواها، وأنها ميزة جوهرية للفكر الغربي مقارنة بنقيضه الشرقي الاستبدادي. في الواقع أن مصطلح الديمقراطية الذي يعود أصله إلى القرن الخامس قبل الميلاد ويشير إلى شكل محدد من أشكال الحكم يتيح للشعب حكم نفسه بنفسه، ما كان أبداً من المسلمات المجمع عليها من قبل المفكرين ورجال الحكم عبر تاريخ أوربا. فقد عارض الديمقراطية كل من إفلاطون وأرسطو، لأنهما وجداها عاجزة عن تحقيق مثالهما الأعلى للمجتمع السياسي. وطواها النسيان طيلة فترة العصور الوسطى، لتدخل من جديد مجال التفكير في القرن الثالث عشر الميلادي، قبل أن تتجسد في تنظيمات المدن-الدول خلال عصر النهضة. أما في العصر الحديث فقد فرضتها الثورة الفرنسية بالسلاح والدم، لكن أمرها، كنظام سياسي، لم يحسم نهائياً في غرب أوربا إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أي بعد القضاء على الفاشية. الدولتان الغربيتان الوحيدتان اللتان استمر فيهما العمل بالمؤسسات الديمقراطية دون ردة أو انقطاع هما بريطانيا والولايات المتحدة. في مفهومها المتعارف عليه حالياً تقوم الديمقراطية على ركائز عدة تشمل حرية التعبير والاجتماع، المشاركة في الاقتراع العام، حرية الصحافة، المشاركة السياسية، سيادة القانون والانتخابات. هذه الركائز ليست مجرد إجراءات شكلية لتنظيم واحتواء الصراع السياسي، لأنها مستمدة من نظرة فلسفية لطبيعة المجتمع والسلطة وحقوق الأفراد وحرياتهم. وبمقدار ما يتعلق الأمر بتطبيق الديمقراطية خارج السياق الغربي، فإن من السذاجة توقع تحققها دفعة واحدة حسب الطلب، كما أن من الصعب استنباتها في شروط اجتماعية وسياسية وثقافية ما زالت تنظر إلى السلطة كمُلكية فعلية أو رمزية، وإلى الأفراد كرعايا ضمن سلّم تراتبي لوشائج عائلية أو طائفية أو قبلية. إن الاعتراف بالتحقق التدريجي للديمقراطية في مجتمعات لا عهد لها بها، وهو تحقق نابع من جدلية التاريخ لا من كرم النظريات، ينبغي أن يتلازم مع الانتباه إلى أنها قضية نضال دائم، وإلى أن التعامل الجدي معها يستدعي مراجعة جذرية لمنظومة المفاهيم والعلاقات السائدة. لتبني الديمقراطية كثقافة وكمبدأ لتنظيم الصراع السياسي ثمن لا بد من دفعه.
أما إذا تطرقنا إلى المجتمع المدني فسيلتبس الأمر قليلاً، لأن هذا المصطلح الحديث نسبياً قد حمّل منذ شيوعه دلالات متنوعة. لنتأمل وصف جان جاك روسو لماهية المجتمع المدني. يقول في السطور الأولى من الجزء الثاني من مقالته المشهورة والمعنونة " خطاب حول أصل التفاوت بين الناس " ، إن " الإنسان الأول الذي سوّر قطعة من الأرض وأعلن للناس : هذه ملكي ، ووجدهم سذجاً بما فيه الكفاية لتصديقه، كان المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني. كم من الجرائم والحروب والقَتَلة، كم من الرعب والنوائب كان يمكن توفيره على البشرية لو خرج واحد من الناس ………وصاح بهم : إحذروا هذا الدجال؛ ستلحق بكم كارثة لو نسيتم بأن ثمار الأرض ملكنا جميعاً، وأن الأرض نفسها لا تعود ملكيتها لأحد ". لا حاجة هنا للتأكيد على الدلالة السلبية للمجتمع المدني القرين بالملكية الفردية المذمومة العواقب، فهي واضحة في النص بما فيه الكفاية. المجتمع المدني كمرادف للأنانية الناتجة عن الملكية الفردية ورد تشخيصه عند هيغل أيضاً. فهو عنده والمجتمع البرجوازي صنوان، حيث يبدأ الفرد فيه يعي نفسه كإنسان مختلف عن إنسان المجتمعات القديمة التي حصرت المواطنة بحدود البلد. فالإنسان البرجوازي لا يستمد هويته إلا من تخطي الحدود الوطنية، لأن تلك الهوية تمثل تجلي العقل الشامل في التاريخ. في الوقت نفسه فإن هذا الإنسان البرجوازي لا يكرّس نفسه، كما فعل أسلافه القدماء، للحياة العامة فقط، لأنه ينتمي فعلياً إلى طبقة لا تريد أن تفرط بمصالحها الخاصة. لكي نتصور بشكل أوضح مفهوم هيغل للمجتمع المدني ينبغي أن نضعه في سياق مفهومه للدولة كما عرضه في " فلسفة الحق"، حيث تجد الدولة في العائلة والمجتمع المدني المقدمتين التاريخيتين والمنطقيتين لوجودها. الحركة الثلاثية للجدل الهيغلي والقائمة على الأطروحة ونقيضها وتركيبهما تبسط نفسها هنا بالشكل التالي: هناك أولاً العائلة التي تسودها روح الولاء المطلق للجماعة، وتعبر عن حالة نموذجية للأخلاق الغيرية التي تبرر التضحية بالفرد لمصلحة الجماعة. وهناك ثانياً المجتمع المدني الذي يسوده ولاء الفرد لنفسه ولمصلحته الخاصة، ويجسد نموذجاً للأخلاق الفردية الأنانية. وهناك أخيراً الدولة التي هي تركيب يوفق بين نمطي الولاء الجماعي والفردي، ويوحّد بين المصلحة الشاملة للأفراد والفرقاء وبين غاية المجتمع ككلية قائمة بذاتها. قصد هيغل من الأنماط العامة الثلاثة المذكورة تفسير حالة المجتمعات المختلفة عبر التاريخ، فالعائلة تكثف روح المجتمعات القديمة، كالمجتمع اليوناني مثلاً، والمجتمع المدني يكثف روح المجتمع البرجوازي، أما الدولة فتكثف الصورة المثالية لجدل الوحدة والاختلاف، وهي الصورة التي أصبحت، كما يذهب بعض دارسي هيغل، حقيقة واقعة في المجتمعات الليبرالية.
لننتقل الآن إلى كارل ماركس الذي كتب في مقالته " المسألة اليهودية" (1843) أن ما يعدّ حقوقاً للإنسان إطلاقاً ما هو في الواقع إلا حقوق الإنسان كعضو في المجتمع المدني، أي الإنسان الأناني المنفصل عن بقية البشر وعن الجماعة. فحق الإنسان في الحرية، بالنسبة لماركس الشاب، ليس سوى حقه في الملكية الخاصة الذي يتيح له أن يتصرف بموارده وفق مشيئته دون اعتبار للناس الآخرين وباستقلال عن المجتمع. أما المساواة البرجوازية فتعني مساواة الجميع في أن يكونوا أشبه بالذرات المكتفية بذاتها. لكن المفهوم الأهم في المجتمع المدني هو مفهوم الأمن، حيث يضطلع المجتمع بدور الحارس الذي يحمي حقوق وملكية أفراده. لذلك لا يبدو المجتمع المدني ، برأي ماركس، مؤهلاً للسمو فوق أنانيته التي تعتمد ديمومتها على ضمان الأمن.
استكمالاً لهذه المقدمة، لابد من الإشارة إلى إن مفهومي الديمقراطية والمجتمع المدني وسواهما من المفاهيم كالمواطنة والمساواة والحريات الفردية والعلمانية، موضع جدل دائم حول شموليتها وصلاحيتها لكل المجتمعات الحديثة أو المنخرطة في الحداثة. فدعاة النزعة النسبية في التفكير يرونها نتاجاً خاصاً بثقافة وبتاريخ الغرب، دون أن يكفوا عن انتقادها من منظورات أيديولوجية عامة أو أخلاقية محلية، في حين يعتبرها أندادهم من دعاة موضوعية المعرفة ملكاً للتجربة الإنسانية العابرة لتباين المجتمعات، ولا يميزون فيها خطراً على الهوية أو تهديداً للخصوصية الثقافية اللتين يفهمونهما بمنطق التغير لا بمنطق الثبات. لكن لا يهمنا هنا أمر هذا الجدل في صورته النظرية المستندة على مسبّقات وحلول جاهزة. ما يهمنا أن هناك، من الناحية العملية، تجارب عديدة، في اليابان والهند مثلاً، للجمع بين توظيف هذه المفاهيم في المجال السياسي، وبين مقاومتها في المجال الثقافي والرمزي. على هذا المستوى الذي ينطلق من عدم وجود تعارض جذري بين الديمقراطية وقيم المواطنة والمساواة من جهة، وبين التقاليد والأعراف السائدة، من جهة أخرى، يكون من الممكن التوصل إلى الاستنتاج البراغماتي القائل بأن الديمقراطية كفكرة وكقيمة كافية لتبرير نفسها بنفسها، وأنها لا تستمد وجودها وشرعيتها من غاية تسبقها وتعلو عليها، غاية مصدرها العقل أو العدالة أو المساواة أو الصالح العام أو الإيمان الديني. فإذا كان أساس الديمقراطية في ذاتها وليس خارجها، فإن مرجعها الوحيد يكمن في ممارستها كفضاء مفتوح مفعم بالعفوية، والمرونة وروح الاستقلال، كما يدعي الكاتب الأمريكي بنجامين باربر. . برأي هذا الكاتب، ينحصر السؤال الفعلي للديمقراطية في تفعيل وتوسيع المواطنة، أي في قدرة النظام الديمقراطي على استيعاب فئات جديدة، محرومة من التمتع بحقوقها، للمشاركة في إبداء رأي أو صنع قرار. لذلك تكون حدودها مرنة ومنفتحة لمساعي تعميم المساواة بين الأفراد لتشمل المرأة والرجل، الأبيض والأسود، أبن البلد والمهاجر. باختصار أن الديمقراطية هي عملية مستمرة لإشاعة المساواة دون اعتبار لفوارق الجنس، أو العرق أو الدين أو اللغة.
لنا أن نسأل هنا، هل يمكن تبني هذا التصور، الليبرالي في جوهره والمحايد ثقافياً في ظاهره، من قبل مجتمعات، كمجتمعاتنا الراهنة، صارت أغلبية فئاتها تراهن على الدين لأن يكون المرجع الأول والأخير لمفهوم السلطة السياسية فيها؟. هل يمكن التوفيق بين الديمقراطية كممارسة إنسانية مفتوحة الاحتمالات والدين كمنظومة اعتقاد أخروي تعتبر نفسها محكمة ومكتفية بذاتها؟ وهل يمكن للديمقراطية أن تأخذ مداها المتخيل في سياق ثقافات تتمحور حول الحفاظ على وحدة الجماعة قبل، أو أحياناً بالضد، من حرية الفرد؟. قبل الإجابة على هذه الأسئلة ينبغي التنويه إلى أن رفض الديمقراطية ليس من اختصاص الفكر الديني المتفاوت في مرونته واستعداده للمراجعة والاجتهاد، وأن إعاقة تطبيقها ليس حكراً على الحركات الدينية المتنوعة في استجابتها لروح الإصلاح والتغيير. ففي هذا وذاك تشاركها قوى اجتماعية تحركها عوامل دنيوية بحتة كالروابط العائلية والقبلية وروح الزعامة وامتلاك الثروة والامتيازات. كذلك ينبغي التنويه إلى تباين موقف الأديان من قضية التطور الاجتماعي والحريات والحقوق المدنية. ونستفيد في هذه النقطة من تفسير عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر لظاهرة الرأسمالية التي ربط نشوءها بالمذهب البروتستانتي المعروف بدعوته إلى تبني أخلاق تقوم على العمل الصارم والزهد في الحياة الدنيا، مما يوفر فرصاً أكبر لتراكم رأس المال. وقاده تعميم نتائج بحثه التاريخي إلى الاستنتاج أنه إذا كانت بعض الأديان تيّسر تطور الرأسمالية، فإن بعضها الآخر يعيق هذا التطور. من منظور قابل للمقارنة بمنظور ماكس فيبر لاحظ المفكر الفرنسي الكسيس توكفيل (1805-1859 ) وجود علاقة انسجام بين المعتقدات الدينية المسيحية وروح الحرية في العالم الجديد، أي أمريكا التي درس تجربتها في كتابه " الديمقراطية في أمريكا" (1835). فالمجتمع الحديث، بالنسبة له، يعثر على تفسيره في الديمقراطية، وليس في العلاقات الاقتصادية الرأسمالية كما ذهب ماركس، أو في الإنتاج الصناعي كما ذهب أوغست كونت. لكن ما هو جوهر تلك الديمقراطية عند توكفيل؟. إنه يتلخص في المساواة العامة في الشروط الاجتماعية بحيث يتمتع كل فرد دون استثناء بحق اشغال الوظائف والمهن وحمل الألقاب وجني الامتيازات. لكن هذه المساواة (القانونية) لا تتضمن مساواة في الثروة أو في القدرات الطبيعية التي لا يمكن أن تكون متاحة للجميع بنفس القدر أبداً.
من المؤكد أن للدين الإسلامي في مجتمعاتنا أوجهاً عدة، فهو نظام للمعتقدات الروحية، وهو سلاح أيديولوجي بيد حركات سياسية تدعي التعبير عن رسالته الحقّة، وهو أيضاً أمل طوباوي بتخليص العالم من شروره. وجميع هذه الأوجه ناتجة عن تأويلات متباينة ومتصارعة لماهية الدين ودوره في حياة الإنسان وعلاقته بالسلطة. من المؤكد أيضاً أن أصحاب الحل والعقد في الدين الإسلامي يواجهون اليوم مهمة وصل وفصل روح الدين، وجسده السياسي، ومثاله الحضاري. ولعلهم يدركون أن الوعي الديني الشعبي والممارسة اليومية له لا يفسران بعامل الإيمان الثابت بقدر ما يفسران بعوامل اجتماعية وسياسية متغيرة. فعملية أسلمة المؤسسات والمناهج الدراسية والمظاهر والعادات ولغة التخاطب اليومي تسير فعلياً يداً بيد مع عملية العلمنة بوصفها اكتشافاً أو إعادة اكتشاف للبعد الدنيوي في الممارسات السياسية والاقتصادية والثقافية. والتجربة الإيرانية تظهر بشكل واضح مآل الحماس الديني الذي صنع ثورة أذهلت العالم لبعض الوقت، لينهمك تحت خيمتها في صراع ضارٍ حول موضوع الإصلاح الذي يمس تعاليم الدين الثوري من الداخل. هذا عن السؤال الأول، أما عن السؤال الثاني فيمكن للديمقراطية والدين أن يتعايشا إذا ما حصل إجماع على ازدواجية المرجعية، وهذا غير قائم في الحالة الإسلامية التي ترفض الديمقراطية جملة وتفصيلاً، أو تستعيض عنها بمبدأ الشورى، أو تقدم مسوغات غير صريحة لقبولها. لكن لا ازدواجية المرجعية ولا واحديتها تعني تجنب التصادم بين تأمين الحريات الديمقراطية وحدود العقيدة والتعاليم الدينية. الفرق الأساسي بينهما أن التصادم في الحالة الأولى يكون علنياً ومعترفاً به، أما في الحالة الثانية فيطمس ويلغى. أخيراً، فإن الديمقراطية القائمة على مبادئ المساواة والحرية والحقوق تهدد فعلياً وحدة الجماعات التقليدية، وتزرع التنافس والصراع فيها، ولذلك يبدو مشروعها متناقضاً مع بنى ثقافات تلك الجماعات وحاجاتها، ومع النظم السياسية ذات النزوع الشمولي التي ترفع لواء الدفاع عنها. لدينا هنا مفهومان للوحدة، أحدهما سكوني والآخر حركي. إن الديمقراطية القائمة على ثقافة الاختلاف والمسؤولية الفردية والتسامح، تجسّد المفهوم الثاني، وتتطلب وجود إطار عام متفق عليه ومتجدد لهوية الجماعة ولكيانها المادي والمعنوي.
أما السؤال عن المجتمع المدني فموضوعه العلاقة بين مضمونيه الاقتصادي والسياسي، وقد أشرنا أعلاه إلى مضمونه الأول حسب بعض تعاريفه الكلاسيكية. لكننا نلاحظ في النقاش المعاصر حصول تحول في دلالة المجتمع المدني الذي صار يفهم كفضاء سياسي قائم بذاته دون جذور اقتصادية، أو كفكرة معيارية لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع السياسي، فكرة لها شحنة نضالية ودعاة متحمسون. يعرّف أرنست غلنر عالم الاجتماع والإناسة البريطاني الجنسية والجيكي الأصل، المجتمع المدني كما يلي: أنه " مجموعة من مؤسسات غير حكومية متنوعة تكون قوية بما فيه الكفاية لموازنة الدولة، وقادرة على منعها من الهيمنة على المجتمع وتفتيته، لكن دون أن يشكل ذلك عائقاً للدولة للاضطلاع بدورها كمحافظ على السلام وكحكم بين المصالح الرئيسية" . يتضح من هذا التعريف أن للمجتمع المدني دوراً أقرب إلى دور حرب العصابات إزاء سلطة مركزية راسخة وجامدة نسبياً. فهو وإن لا يستطيع مكافئتها في القوة، وليس المطلوب منه أن يكون كذلك، ينبغي أن يكون حاملاً لقضايا عامة أو أداة لمعارضة سياسات قائمة من منطلق تعددية وتنوع المصالح. لئن كان للمجتمع المدني، عند غلنر، دور أحادي الاتجاه يستهدف سلطة الدولة، فإنه يكتسب عند بنجامين باربر دوراً مضاعفاً. يضع باربر المجتمع المدني في منطقة وسطى بين الحكومة والقطاع الخاص، أي بين السياسة والاقتصاد. فيشير إلى أن مكانه ليس في المراكز الانتخابية، وليس في أماكن التسوّق، بل " حيث يتكلم أبناء الحي الواحد والجيران عن الشكل المناسب لسلامة المرور وعبور الشوارع، عن حفظ فائدة مدرسة الحي، عن استخدام الكنيسة لإيواء المشردين..الخ" . المجتمع المدني لا ينافس الحكومة في امتلاك وسائل القمع الشرعية، كما أن لطابعه العمومي طبيعة تطوعية غير قابلة للخصخصة ( الدخول في آليات السوق). المجتمع المدني ،حسب تصوّر باربر، هو هوية مدنية يتمتع بها المواطن الذي يجمع بين حريته ومسؤوليته، وتتيح له مراقبة الحكومة والسوق معاً، هوية توفر بديلاً للمواجهة الضيقة المحصورة، في دولة كالولايات المتحدة، بين الدولة والفرد المنعزل، والحكومة والقطاع الخاص، والسياسيين الفاسدين والمقترعين الغاضبين. ثمة ما يستوقف المتأمل في المفهوم الإيجابي للمجتمع المدني عند غلنر وباربر، فهو ينزع عنه سماته الفردية والأنانية التي شخصها مفكرون مثل روسو هيغل وماركس، ويوكل له مهمة حماية المصلحة الجماعية. ثم يقوم، أي التعريف، بتعميمه كأداة للمشاركة السياسية صالحة لجميع المجتمعات بغض النظر عن تطورها الاقتصادي ورسوخ التقاليد الديمقراطية فيها. لهذا يمكن اعتبار الانتشار الواسع المتحقق في العقود الأخيرة لفكرة المجتمع المدني دليلاً على درجة العولمة الحاصلة لقيم الديمقراطية والتعددية والمواطنة المتاحة للأفراد في المجتمعات الرأسمالية الليبرالية. على أن لهذه القضية بعداً آخر غير بعد التحقق العالمي السريع أو التدريجي لمثالات اعتبرت حتى وقت قريب ملكاً لنمط الحياة البرجوازية، إذ يرى البعض كبنجامين باربر، في كتابه الآنف الذكر، أن المجتمع المدني مهدد في معاقله وفي أطرافه بالتفتت والانحسار تحت ضغط انبعاث التطرف الديني والنزعات الأثنية والقبلية، من ناحية، واندفاع قوى العولمة لضمان سوق عالمي مقياسه الأخير الربح المادي وأداته الرئيسية ترويج الاستهلاك بكل أشكاله، من ناحية أخرى. وجه الخطر في هاتين الحركتين يتمثل في ميلهما الشمولي الذي لا يخلو من العدمية حينما يتعلق الأمر بالخير العام للمجتمع ومواطنيه. بالإضافة إلى ذلك فإن مجال المجتمع المدني، في حالة مجتمعاتنا المعاصرة، متنازع عليه بين قوى الإسلام السياسي والقوى العلمانية، اللتين تلتقيان في توظيفه لمقاومة احتكار الدولة لمصادر القوة وصنع القرار. لذلك ليس من المحتم أن يكون المجتمع المدني حاضنة لأفكار وقيم مدنية ودنيوية تعكس المجال العام دون المجال الخاص المشحون بوعي ديني أصيل أو مصطنع.
أخيراً، فإن المسار المعقد للديمقراطية والمجتمع المدني في مجتمعاتنا يطرح بإلحاح بحث شروطهما الثقافية والسياسية التي هي موضوع للتفسير التاريخي، وإن ظهرت حيناً وكأنها تعصي حركة التاريخ ومتغيراته. (انتهى)


عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد. دار النفائس، بيروت 1986.
أنظر مقال بنجامين باربر في كتاب " Democracy and Difference " إعداد سيلا بن حبيب. وكذلك كتابه " Jihad vs. McWorld " (1996).
أرنست غلنر ، "Conditions of Liberty " . دار بنغوين؛ لندن.
بنجامين باربر، " Jihad vs. McWorld " ص 281.

أنظر مثلا تقرير " الحالة الدينية في مصر" في كتاب " النصّ والرصاص " لنبيل عبد الفتاح. دار النهار 1997.

عودة من المنفى
كامل شياع

عدت إلى العراق قبل عامين، تاركاً ورائي قرابة خمسة وعشرين عاماً من الهجرة القسرية. تلك العودة إلى ما حسبته ملاذي الآخر أو الأخير، عللتها لنفسي بأن فصلاً من حياتي صار ماضياً ينبغي طيـّه فطويته، وأن فصلاً آخر قد فتح إحتمالاته، على مصراعيها، أمامي فاستجبت إليه. لم أقصد أن أكون مغامراً حين مضيت في رحلة العودة التي لم أتخيلها منذ البداية نزهة في عالم الأحلام، ولم يأخذني إليها حماس رومانتيكي. لقد شعرت فقط أنني مدعو لرحلة نحو المجهول، وفي ذلك يكمن سر أنجذابي لها.
رحلة العودة وضعتني شيئاً فشيئاً إزاء اختيارات صعبةلم أكن أعي دلالاتها أو أقدر أبعادها، وحررتني من الارتباط بمكان محدد على حساب الزمن الخاص للتجربة الذاتية، واوقفتني بعيداً عن الأفكار المجردة حول التاريخ العام لأكتشف تنوّع التاريخ المحلي وتعقيده وإلتواءه. ومن يبحث .... يجد!!
بجانب التجربة الفعلية والتاريخ الحي، وضعتني هذه الرحلة وجهاً لوجه أمام موت جارف ، وشيك وعبثي. لا اعني هنا بالطبع أفكاراً أو أخيلة أو هواجس تستبق حدث الموت الرهيب، بل حقائق ملموسة يمتزج فيها الموت بالحياة ويتلازمان في كل لحظة. الموت في مدينة كبغداد يسعى إلى الناس مع كل خطوة يخطونها، فيما تتواصل الحياة مذعورة منه أحياناً، ولا مبالية إزاءه في أغلب الأحيان. ما أكثر لافتات الموت السوداء في المدينة؟ كم من الناس واسيت بفقدان أب أو إبن أو أخ أو قريب؟ كم مرة قصدت مجالس التأبين معزياً؟ كم مرة وجدت نفسي عاجزاً عن إظهار تعاطفي مع ذوي الضحايا البريئة المجهولة لي؟ كم بكيت في سري حزناً على مشاهد الدماء المسفوكة في كل مكان؟
بعد هذا الإنغمار المكثف في وقائع الموت وأخباره، يسألني البعض أحياناً، ألا تخاف من الموت؟ فأجيب، أنا الوافد أخيراً إلى دوامة العنف المستشري، أعلم أنني قد أكون هدفاً لقتلة لا أعرفهم ولا أظنهم يبغون ثأراً شخصياً مني، وأعلم أنني أخشى بغريزتي الإنسانية لحظة الموت حين تأتي بالطريقة الشنيعة التي تأتي بها، وأعلم أنني قبل ذلك كله كثير القلق على مصير أخي ومرافقيّ الذين بملازمتهم لي في سكوني وحركتي يجازفون بحياتهم وحياة عوائلهم. رغم ذلك كله، وبمقدار ما يتعلق الأمر بمصيري الشخصي، أجد نفسي مطمئناً عادة لأنني حين وطأت هذا البلد الحزين سلمت نفسي لحكم القدر بقناعة ورضى. وما فعلت ذلك كما يفعل أي إنتحاري يسعى إلى حتفه في هذا العالم وثوابه الموعود في العالم الآخر، فالقضية بالنسبة لي تعني الحياة وليس الموت. وهذه الحياة ينبغي ألا تكون بالضرورة آمنة شرط أن تشبع الرغبة في الوجود والفعل والانغمار.
منذ سنوات وأنا أعتقد، ربما بعد قراءة جان بودريار، أن النهاية حاصلة في الحاضر. إنها تلازمنا في كل لحظة نعيشها. وحين ندرك ذلك، لا يعد هناك ما يستحق الانتظار. غير أن تسليم النفس للنهاية ... ليس استسلاماً، إنه بداية السير نحو التخوم أو بينها ..... هناك حيث تتقلص المسافات. وعليّ أن أعترف أنني لم أكن غير مكترث بالموت دائماً. فبعد إغتيال بشع لأحد الرفاق في شقته، صرت للمرة الأولى أنام وبجانبي مسدس جاهز للإطلاق. الأسلوب الشنيع لتعذيب ذلك الرفيق والتمثيل الوحشي بجسده، تركني لليال عديدة عرضة لكوابيس مرعبة. أي إرادة تمكنني من إيقاف انثيالات العقل الباطن، والتشبث غير الواعي بالحياة ؟
عندما أتخيل الآن الحدود الدنيا والقصوى لهذه التجربة، أجد نفسي مسكوناً بروح متقشفة... روح بالحد الأدنى تقبل الواقع كما هو، ولا تسند لنفسها سلطة معرفية كبيرة أو تسقط عليه أوهامها أو تجرفها إحتمالاته القصوى. هذا كما أعتقد ثمن الاقتراب من التاريخ كمادة حية، كحالة هشة في طور التشكل والإندثار. فلا تجربة حقيقية دون تفاصيل جزئية وملموسة.... دون إزاحة أو تأجيل.
للعودة من المنفى، في حالتي، سبب عاطفي أكيد. إذْ وجدت نفسي في علاقة لا أقوى على إستبدالها أو تعويضها. إنها العلاقة مع الوطن كمجموعة من البشر، والتقاليد، الأمكنة.... كفضاء من ضوء وهواء، من فوضى وخراب وألم. بعد أن جربت هذه العلاقة صرت متيقناً من جدواها ومعناها بوصفها حقلاً للممارسة اليومية والفكرية، لكنني لم أزل أشك بأن حب الوطن من صنف الفضائل!. فقد يهيم المرء حباً بوطنه، المصنوع من صور وخيالات، وهو بعيد عنه، وقد لا يقيم لنفسه علاقة إخلاقية معه وهو يعيش في داخله، وقد يخدم بعضنا الوطن من موقف متجرد إلا من الوازع الإنساني، وقد يدمره آخر يتشدق بإسمه ليل نهار. ما هو ثابت في الوطن كأرض وتاريخ لا يلزم الجميع بالتماهي التام معه أو التساوق مع حركته وتحولاته. وهكذا فأن ضعف الحماس للوطن أحياناً لا يدخل في باب الرذيلة أو الخيانة.
الوطن محطة في حياة الإنسان تتفرع منها جميع المحطات الأخرى التي قد تؤدي إليها أو لا تؤدي، لكنها تحكمنا، بقوة شبه قدرية، بأن نظل متعلقين بها رمزياً حتى لو هجرناها فعلياً، أن نظل مشدودين إليها بقرابة دم حتى لو أودعنا مصائرنا خارجها.
ليس في عودتي من المنفى نكوص نحو الماضي، استبدال نمط حياة "متخلف" بآخر متطور، تفضيل عالم عنيف حدّ الهمجية على عالم مهذب ومتحضر، وهجر السلامة والأمان لإرتياد مكان مجهول في "قلب الظلام"... ظلام التاريخ. إذا كانت هناك عودة بالنسبة لي فهي مغادرة تجربة استنفدت نفسها تدريجياً، كسر شرط حياتي غدا عادياً بغية إكتشاف ما هو غير مألوف أو مضمون. هذه الهجرة المعاكسة لا تفترض مسارات محددة، ولا ترتكز على ثنائيات ثابتة من قبيل الوطن/ المنفى، الداخل / الخارج، الشرق/ الغرب، الهوية/ الآخر..... وهي كذلك لا تفترض حركة بشوطين واحد للذهاب وآخر للإياب كما توحي قراءة رحلة يوليسيس التي يعدّها البعض الصورة النمطية للسرد، ولا تأخذ طابع علاقة مغلقة للنفي ونفي النفي والتركيب. فلرحلة النفس في الزمن مستويات عدّة وتفرعات شتى. ولأنها مقبلة دائماً على أفق مفتوح يمكن أن يمضي بها العدّ إلى أكثر من ثلاث مراحل.
عدت إلى العراق قبل عامين، لأدرك أنني بلغت غاية ما صبوت إليه: أنهاء شعوري بالسأم من الإكتفاء بعدّ سنوات الهجرة، من البقاء بعيداً عن وطن طالما تخيلته جميلاً وأنيساً رغم جنونه وقسوته، ونزع ثوب الغربة عن نفسي لأرى الواقع كما هو عارياً من اغلفته وبريقه، النطق بلغة المقيم في الوادي لا المتطلع من أعلى التل، والتعايش بأدنى التوقعات مع مواطن البؤس والغرابة والقسوة.
عدت إليه فوجدته يمضي في متاهة تاريخية .... لا يمكنها أن تكون إلا مؤقتة. وأنا أحد شهودها: أعيش تذبذباتها، أراقب تقلباتها، أتفاعل مع تفاصيلها، وأثير أسئلة حولها، وأراجع قناعات بشأنها، وأكوّن أحكاماً عنها. أنني منغمر بتجربة غيـّرت حساسيتي إزاء كل ما يحيط بي. فما عادت تستوقفني كثيراً الأفكار المسبقة والمقارنات الجاهزة والرغبات التي تعظ بما ينبغي أن تكون عليه حالة الأشياء. ورغم أن الحلم السياسي الذي أسرني ظل هو هو ، صرت أشعر بالقرف من كل خطاب سياسي يعمد إلى إجترار عذابات الضحية، التنكر من المسؤولية عن الماضي، إستغلال الرضوض النفسية التي تستفز الأحياء أو تخطف منهم وعيهم.
كل ما أبحث عنه وسط هذا الضجيج الزائف هو الهدوء، الصدق، ورفعة الشأن العام.
العراق فتح ذهني وقلبي لسطوة الحاجة الآسرة القاسية على ناسه. وهو، كما يبدو لي الآن، حالة مثالية لفهم ما يجري في العالم بأسره. فلأنه بلغ القاع صار يتيح، بشكل أفضل، رؤية منابع الحروب والهمجية والمصالح الأنانية، الكذب والفساد والعنف والنسيان المتعمد للحقيقة أو السهو عنها. كل، من موقعه، مهموم بالعراق ومتورط فيه:أميركا العظيمة المتجبرة والسطحية، الديمقراطيات الغربية المرتبكة، الشعبويون من كل الأنواع، حاملو الشعار اليساري، اليمينيون والمحافظون، العروبيون، الأصوليون، تجار الموت، رجال الأعمال،حاملو ألوية العصبيات الخادعة.....كل خبر يأتيني عن بؤس هذا العالم وتعاسته يحيلني على "مستعمرة" سوء إسمها العراق.. هي درجة الصفر التي لا موقع لها على خرائط المكان أو مقاييس التجربة، لكنها تتيح، في الوقت نفسه، فهم أوجه الزيف في عمارة زمننا الماضي في مسارات مجهولة.
عدت إلى العراق بعدما اكتشفت أنني شخص دون مشروع خاص. في السياسة كما في الثقافة مشروعي مرتبط بالجماعة... فلا فعل ولا حضور دون مشاركة وتضامن.
عدت من المنفى وأنا مدرك أن لا عودة لي منه لأنه يجدّد نفسه في كل تماس مع ما هو مألوف أو غير مألوف. وسوف تلازمني أشباحه كما لازمتني أشباح الوطن.
كل رجوع عن المنفى تعميق لجذوره وإيهام بخفاياه. أي أوجاع سرية يورث المنفى، أي شفاء يحمل الوطن؟